اَلْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَي خطبة الجمعة القادمة الشيخ مكرم عبد اللطيف
خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 2 جمادي الأولي 1447هـ ، الموافق 24 أكتوبر 2025م إعداد [مكرم عبداللطيف]
وقالت وزارة الأوقاف: إن الهدف من هذه الخطبة هو التوعية بضرورة وأهمية الحفاظ على البيئة وأثر ذلك في بناء الحضارة.
محتوي الموضوع
1- لقد سبق الإسلام كل الأمم في الحفاظ على البيئة
2/ الحفاظ على البيئة من شعب الإيمان
3/ البيئة من نعم الله الباهرة وركن أساسي للتقدم الحضاري
4/ الوعيد الشديد على مفسدي البيئة
5/ نشر الوعي البيئي أمانة شرعية
6/الحِفاظَ على البيئةعند الخروج للتنزه في البرية
والآدابِ الَّتِي يَنْبَغِي للمُتَنَزِّهِينَ أنْ يأْخُذُوا بِهَا
البيان والتوضيح
لقد سبق الإسلام كل الأمم في الحفاظ على البيئة
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ: أَنْ أَنْبَتَ لَهُمُ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ؛ لِتَكُونَ هَذِهِ الأَرْضُ صَالِحَةً لِلْحَيَاةِ عَلَيْهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: 10]؛ أَيْ: تَرْعَى أَنْعَامُكُمْ وَدَوَابُّكُمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 11].
وَلَمْ يَقْتَصِرِ الأَمْرُ عَلَى الْغِذَاءِ فَقَطْ، بَلْ جَعَلَ اللهُ فِي النَّبَاتِ جَمَالاً وَتَنَوُّعًا لِتَطِيبَ حَيَاةُ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 33-36].
فَمِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْمُسْدَاةِ وَالرَّحْمَةِ الْـمُهْدَاةِ: الاِعْتِنَاءُ بِالْبِيئَةِ، وَتَشْجِيعُ النَّاسِ عَلَى إِظْهَارِ الْبِيئَةِ فِي أَجْمَلِ مَظْهَرٍ وَأَحْسَنِ مَنْظَرٍ؛ فَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَثَّ عَلَى الزِّرَاعَةِ وَالْغَرْسِ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ » [متفق عليه]، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»
[ صَحَّحَهُ الألباني].
وَمِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ : الْمُحَافَظَةُ عَلَى بِيئَتِنَا الْجَمِيلَةِ وَاحْتِسَابُ الأَجْرِ فِي ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ عَلَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ يَغْرِسُ وَلاَ يَقْطَعُ، وَيُصْلِحُ وَلاَ يُتْلِفُ، وَيَبْنِي وَلاَ يَهْدِمُ، وَيُحْسِنُ وَلاَ يُؤذِي؛ مِفْتَاحَ خَيْرٍ، مِغْلاَقَ شَرٍّ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]، وَقَالَ: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، وَقَالَ فِيِ ذَمِّ بَعْضَ النَّاسِ : ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205].
وَمِنَ الإِفْسَادِ الْمُحَرَّمِ: أَذِيَّةُ الْمُسْلِمِ قَوْلاً أَوْ عَمَلاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، وَإِنَّ مِنْ أَذِيَّتِهِمْ مَا يُوضَعُ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ وَأَمَاكِنِ تَنَزُّهِهِمْ؛ مِمَّا يُؤْذِيهِمْ وَيُدَنِّسُ ثِيَابَهُمْ وَأَقْدَامَهُمْ وَنِعَالَهُمْ، أَوْ بِمَا يَجْرَحُ أَبْدَانَهُمْ وَيُعَرِّضُهُمْ لِمَا يُؤْلِمُهُمْ كَالأَحْجَارِ وَالأَخْشَابِ وَالزُّجَاجِ وَالْمَسَامِيرِ، وَالْمُخَلَّفَاتِ الْبِلاَسْتِيكِيَّةِ ، أَوْ قَطْعُ مَا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ أَشْجَارٍ، أَوْ مَا تَأْكُلُهُ دَوَابُّهُمْ مِنْهَا، أَوْ إِشْعَالُ النَّارِ فِي أَمَاكِنِهِمْ.
وَعِنْدَمَا وَدَّعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الْجَيْشَ الإِسْلاَمِيَّ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، أَوْصَاهُمْ بِوَصَايَا نَبَوِيَّةٍ عَظِيمَةٍ، يَرْتَكِزُ مُعْظَمُهَا عَلَى أَمْرِ الْحِفَاظِ عَلَى الْبِيئَةِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: «لاَ تَحْرِقُوا نَخْلاً، وَلاَ تَقْلَعُوا شَجَرًا، وَلاَ تَهْدِمُوا بَيْتًا، وَلاَ تَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلاَ صَغِيرًا، وَلاَ رَضِيعًا، وَلاَ كَبِيرًا فَانِيًا».
وَمِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ: احْتِسَابُ الأَجْرِ فِي إِزَالَةِ الأَذَى مِنَ الْمُنْتَزَهَاتِ وَالطُّرُقَاتِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» [أخرجه مسلم].
وَبَيَّنَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأَجْرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى إِزَالَةِ مَا يُؤْذِي النَّاسَ بِطُرُقَاتِهِمْ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، أَوْ شَوْكٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ؛ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ» [أخرجه مسلم]؛ فَهَذَا عَمَلٌ يَسِيرٌ وَافَقَ إِخْلاَصًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الْبَصِيِرِ، فَكَانَ سَبَبًا فِي مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَدُخُولِهِ الْجَنَّةَ
أحبتي الكرام
يقول الله -سبحانه وتعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق: 7، 8].
ففي هذه الآية الكريمة -ونحوها كثير- الدعوة المُؤكَّدة لحماية البيئة؛ إنسانًا، وحيوانًا، وطيرًا، وبناءً، برًّا وبحرًا وجوًّا، فضاءً وسماءً، شجرًا ونباتًا، زرعًا وماءً، حفظًا لجمالها ونظافتها، وقوَّتها ونضارتها، وسلامتها ونقاوتها.
الحفاظ على البيئة من شعب الإيمان
معاشر المسلمين: إن الحِفاظَ على البيئة أحدُ شُعب الإيمان، ودلائل البرِّ والإحسان؛ بل هو أمرُ الملك الديَّان، وحسبُنا ما تحفَلُ به شريعتُنا من حُجَّةٍ وبُرهان: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة: 60]، (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56].
يقول الإمام القُرطبيُّ -رحمه الله-: “نهَى عن كل فسادٍ قلَّ أو كثُر بعد صلاحٍ قلَّ أو كثُر”.
وصحَّ عن سيِّد ولدِ عدنان -عليه الصلاة والسلام- قولُه: “الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبة، فأعلاها: قولُ لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطريق”. أخرجه مسلم في صحيحه.
والأذى يشملُ الحِسِّيَّ والمعنويَّ.
الله أكبر! فكيف بدرء الأذى عن مناحِي الحياة كلِّها؟! لتسلمَ جميلةً بهيَّة، نقيَّةً صحيَّة، لا غرْوَ أن الأمرَ أعظمُ وأجلُّ، لمن دانَ وامتثَل.
إخوة الإيمان: وكيف لا نستبِقُ حمايةَ البيئة، وقد أفاءَ الله على عباده بآلاء الطبيعة الخلاَّبة، والبيئة الجذَّابة؟! يقول -سبحانه-: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق: 7، 8].
ففي هذه الآية الكريمة -ونحوها كثير- الدعوة المُؤكَّدة لحماية البيئة؛ إنسانًا، وحيوانًا، وطيرًا، وبناءً، برًّا وبحرًا وجوًّا، فضاءً وسماءً، شجرًا ونباتًا، زرعًا وماءً، حفظًا لجمالها ونظافتها، وقوَّتها ونضارتها، وسلامتها ونقاوتها.
إن لله فـي الـخلائـقِ سـرًّا *** من سنَا برقِه تحارُ العقولُ
لا تـرى ذرَّةً مـن الـكـونِ إلا *** ولها في الكونِ شرحٌ يطولُ
تلك يا أخي حكمةٌ من حكيمٍ *** لبهاءِ الحياةِ أصلٌ أصيلُ
البيئة من نعم الله الباهرة وركن أساسي للتقدم الحضاري
أيها المؤمنون: البيئةُ التي طُرِّزَت ببدائعِ الموجودات وأحاسِن المخلوقات لهي من نعم البارِي الباهِرة، ومِنَنه علينا الغامِرة، فمنها تُجنَى المنافعُ الكثيرة، والارتِفاقاتُ الكبيرة؛ كالتفكُّه من البيئة بثِمارِها، وابتِهاج النفوس بأزهارها، وتمتُّع الأبصار باختِضارها، والاستِظلال بوارِف ظِلالها، والارتِفاق بخشَبها، واستِنشاق الهواء النقيِّ بسببها.
وتُثيرُ الأشواقَ والإعجاب، وتُزيحُ الونَى والأوصاب، وتخلعُ على النفوس رونقَ البهاء، وعلى القِيَم الأثيلة روعةَ الطُّهر والسناء.
بل تبعَثُ على تمجيد الخالقِ الوهاب، لذلك رغَّب المُصطفى -عليه الصلاة والسلام- في استِصلاحِها وحمايتِها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “بينما رجلٌ يمشِي بطريقٍ وجد غُصنَ شوكٍ فأخَّرَه، فشكرَ الله له فغفرَ له”. أخرجه البخاري.
وعليه فيجب المحافظة على البيئة لأنه ركن أساسي للتقدم الحضاري، حيث تساهم في تحسين نوعية الحياة، وتحقيق التنمية المستدامة، وتطوير الموارد الطبيعية. كما أن حماية البيئة من التلوث تساعد على توفير موارد طبيعية نظيفة مثل الماء والهواء، وتشجع على الاستدامة من خلال ترشيد الاستهلاك وتقنيات إعادة التدوير
الوعيد الشديد على مفسدي البيئة
ولقد حذَّر -صلى الله عليه وسلم- من تلويثِ البيئة وتدنيسِها، بقوله -عليه الصلاة والسلام-: “اتقوا الملاعِن الثلاثة: البراز في الموارِد، وقارعة الطريق والظلِّ”. أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وهذا -لعَمرُ الحقِّ- توجيهٌ صحيٌّ وقائيٌّ دقيق، ومنهجٌ نبويٌّ تجاهَ البيئة شفيق، لم يُسبَق في المناهِج العالمية الغابِرة، ولا دُغُمها الحاضِرة.
إخوة الإسلام: ومع التأكيد في الترغيب، والتشديد في الوعيد صوبَ البيئة وجودًا وعدمًا، إلا أنها في كثيرٍ من الأقطار، وبجهلِ الجاهلين واعتِساف العابِثين أصبحَت رسمًا محيلاً، وأثرًا مُشوَّهًا ضئيلاً، وبلقعًا وبيلاً، بعد أن كانت مغنًى مُمتعًا جميلاً.
فكم من بيئةٍ قميئةٍ وبيئةٍ، تغمُرها الرَّثاثةُ والقَذَى، وظاهرُها الفوضَى والإهمالُ والأذى؟!
إن السعيَ في إفساد المنظومة البيئية داءٌ قميءٌ عُضال، لا يتلبَّسُ به إلا من هو عن سبيل الذَّوق العامِّ مُنحرِفٌ وضالٌّ، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من إنسانٍ قتلَ عصفورًا فما فوقَها بغير حقِّها إلا سألَه الله -عزّ وجل- عنها”. أخرجه أحمد والنسائي.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “من قطعَ سِدرةً صوَّبَ الله رأسَه في النار”. أخرجه البيهقيُّ وأبو داود، وقال مُعلِّقًا: “أي: عبثًا وظُلمًا بغير حاجةٍ تكونُ له فيها”.
ذلكم الوعيدُ في سِدرةٍ في فلاة، وشجرةٍ في نوماة؛ فكيف بالصيد والاحتِطابِ الجائر؟! وانبِعاث دُخان المصانِع، وعوادِم المركَبات، وأكوام النفايات، وآسِن المُستنقعَات، وطفحِ الصَّرف الصحِّيِّ، ونحو ذلك من البيئات الطارِدة!!
وأخطرُ من ذلك: ما حسبُنا الله عليه، ثم حسبُنا من جبروت الظُّلم والطُّغيان، وأسلِحة الدمار الشامِل، والأسلحة النووية والكيماوية، والغازَات السامَّة، والألغام المُتفجِّرة، وبراميل النيران، التي أبادَت جموعَ النساء والرجال والولدان دون شفقةٍ أو رحمةٍ أو تَحنان، ومحَقَت بكل وحشيَّةٍ وبُهتان مصادرَ البيئة والحياة، وجعلَت منها مورِدَ الأسقام والهلَكَات، ومن منابِع الخيرات مغيضَ البركات، ومسرحًا للحروب والصِّراعات.
وفي مُقدمة ذلك: المُمارساتُ الصهيونيَّة ضدَّ المُقدَّسات الإسلامية، والأزمةُ السورية، وتدهوُر الأوضاع الإنسانيَّة في بلاد الشام في إرهابٍ فظيعٍ ضدَّ الإسلام والإنسان والبيئة.
ألا بِئسَت الطُّغمةُ الأشرار التي محَت من جمال البيئة كلَّ الآثار، وهلُمَّ جرًّا من جرائِم التلوُّث السمعيِّ والبصريِّ واللفظيِّ مما يُخجِلُ الفضيلة، وتئِنُّ منه المروءةُ، والله المُستعان.
نشر الوعي البيئي أمانة شرعية
أيها المؤمنون: إن الوعيَ التامَّ، والتثقيفَ العامَّ بالرِّياد عن البيئة، وحفظِ مُقوِّماتها، وعناصرها ومُهمَّاتها، والوعي البيئيِّ والإصحاح البيئيِّ أمانةٌ شرعيةٌ، ومسؤوليةٌ خُلُقيَّة، وحاجةٌ وطنيَّة، وضرورةٌ اجتماعية، وقيمةٌ حضاريَّة، لا تزيدُ الأُممَ إلا تحضُّرًا وعلوًّا، ورُقيًّا ونمُوًّا، ولخلالِها سدًّا ورفُوًّا.
ولك الحقولُ وزهرُها وأريجُها *** ونسيمُها والبلبلُ المُترنِّمُ
والماءُ حولك فضَّةٌ رقراقةٌ *** والشمسُ فوقَك عسجَدٌ يتضرَّمُ
فامشِي بعقلِك فوقَها مُتفهِّمًا *** إن المَلاحَةَ مُلكُ من يتفهَّمُ
إخوة الإسلام: وعندما ترتقِي فهومُ الأُمم إلى مدارات الإسلام وتشريعاته الحُكميَّة، وأسراره الحِكَميَّة، وإشراقاته الإنسانية والبيئية، وإجراءاته الطبية والوقائيَّة، تتسنَّمُ قمَّةَ السُّؤدَد والتغيير، الموجَد في قول العزيز القدير: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
وسيكونُ الفوزُ -بإذن الله- حليفَها، والخيرُ أليفَها، والنصرُ ديدَنَها وهِجِّيراها، وتفترِعُ معاقِدَ الأمجاد وذُراها.
أمة الإسلام: ويمتدُّ الحِفاظُ على البيئة العامَّة إلى البيئة الاجتماعية، والوطنية، والأُسرية، والسياسيَّة، والمُجتمعيَّة، والاقتصاديَّة، وحماية الحياة الفِطريَّة، والبيئةِ التعبُّديَّة والعمليَّة الجاذِبة، وذروة سنامِها، ودُرَّة تمامها: البيئة الروحيَّة بالتوحيد والإيمان، والقرآن والسنة، التي تُزكِّي المُجتمعات من الذنوبِ والآفات، وتُطهِّرُها من أدران الإلحاد والشِّرك، والبِدَع والمعاصِي والمُنكرات، وموجات الغلُوِّ والتشكيك، واهتِزاز الثوابِت والقِيَم، وهَدر المُقدَّرات والمُكتسَبَات، فتغدُو أضوعَ من النسيمِ الأرِيج، وآلَق من السُّكون البَهيج.
الحِفاظَ على البيئة عند الخروج الي الأماكن العَامَّةِ والحدائِقِ
نعم : إن الحِفاظَ على البيئة قرينُ الأخلاق الحَميدة العليَّة، وعنوانُ التمسُّك بالسنَّة السنيَّة؛ لأن المنهجَ الإسلاميَّ الفريد مصدرُ انبِثاقها، ومنبعُ اشتِقاقها، وعليه لزِمَ تقويمُ رؤية العالَم والمُجتمعات إزاءَ البيئة، وذلك بإخراجها من الحيِّز الماديِّ المحدود إلى الحيِّز التعبُّديِّ المودود.
وأن نُعزِّز مفاهيمَها الدقيقة المُنيفة، ذات المغازي الشريفة لدى فلَذَات الأكباد، والأجيال والشباب، في المعاهِد والجامِعات، والمدارِس والكليات، وعلى شتَّى الصُّعُد والمجالات، وأن نُذكِيَ في طموحاتهم الثقافة البيئية شريعةً، وعبادةً، وقُربةً إلى الله، لا ذوقًا فحسب وعادة، مع تجليَة آثار النفع والجمال فيها، وكذا في مغبَّاتها ومعانِيها، كي تنعكِسَ على أرواحِهم بالهُدى والندى والسعادة، وتُرقِّيَ ذائقَتَهم فتُلفِي نحو الإصلاح والفلاح أُنفًا مُنقادة، تلكم الأُمنية المُبتغاة المُرادة، ونِعمَت العزيمةُ والإرادة.
يقول الله تعالي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 204، 205].
أيُّهَا المؤمنونَ: خَلَقَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الإنسانَ واسْتَخْلَفَهُ فِي الأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، قالَ تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[البقرة: 30] وقَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ”(أخرجه مسلم (2742).
عبَادَ اللهِ: وقد أفاءَ اللهُ -عزّ وجلّ- عَلى عبادِهِ بآلاء الطبيعةِ وبَهَائِهَا، والبَرَارِي ونَقَائِهَا، قالَ سُبْحَانَهُ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)[فاطر: 27]، وقال عزَّ شَأْنُهُ: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)[ق: 7-8].
أيُّهَا المؤمنونَ: ونحن على ابواب موسِمِ الشِّتَاءِ تَتَنَزَّلُ الأَمْطَارُ، وتَخْضَرُّ الأشْجَارُ، وتصفُو الأجواءُ فيقصِدُ النَّاسُ البرَارِيَ والمتَنَزّهَاتِ والأَوْدِيَةَ والشِّعَابَ؛ لأنَّ الإسلامَ دينُ يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ وَفُسْحَةٍ وسَمَاحَةٍ، قال -صلى الله عليه وسلم-: “خُذُوا يا بَنِي أرْفِدَةَ، حتى تَعْلَمَ اليهودُ والنَّصَارى أنّ في دِينِنا فُسحةً”(أخرجه أحمد (24855) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1829).
وسُئِلت عائشةُ -رضيَ اللهُ عنهَا- عن البَداوَةِ فقالتْ: “كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَبْدو إلى هذهِ التِّلاعِ..”، والتلاعُ: مجرى الماء من أعلى الوادي إلى أسفلِهِ، والخروجُ إلى البرارِي والمتنزهات مُحَبَّبٌ للنفسِ، وسَبَبٌ للأُنْسِ، مَا دامَ مُنْضَبِطًا بالقواعِدِ والآدابِ، وخاليًا من التَّعَدّي والمنكراتِ.
عبَادَ اللهِ: والخروجُ للباديَةِ نِعْمَةٌ منَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، والنِّعَمُ تُسْتَدَامُ بِحِفْظِهَا، وتَزِيدُ بِشُكْرِهَا، وتَطِيبُ بِاسْتِشْعَارِهَا، وقَدْ تَعَاضَدت نصوصُ القرآنِ والسُّنَّةِ في وجوبِ الحفاظِ على البيئةِ وصيانَتِهَا عن كلِّ ما يَذْهَبُ بِجَمَالِهَا، أوْ يَضُرُّ بِبِنَائِهَا، والتحذيرِ من الإفسادِ فيهَا، أو العبثِ بهَا، قالَ تعالى: (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[البقرة: 60]، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ”(أخرجه مسلم: (35)، وقالَ أيضًا: “اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ” قالوا: وَما اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: “الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّهِمْ”(أخرجه مسلم (269).
أيُّهَا المؤمنُونَ: إنّ السَّعْيَ في إفسادِ البيئةِ، وإلحاقَ الضَّرَرِ بالأماكنِ العَامَّةِ والحدائِقِ وغيرِهَا من المرَافِقِ، دَاءٌ عُضَالٌ، لا يَتَلَبَّسُ بهِ إلا مَنْ فَسَدَ ذَوْقُهُ، وسَاءَتْ سَرِيرَتُهُ وتَجرّدَ مِنْ أَبْسَطِ قَوَاعِدِ الذَّوْقِ العَامِ، ذَكَرَ الطبريُّ في تفسيرِهِ أنّ الأخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ وكان رجلاً حُلوَ الكلامِ، حُلْوَ المنْظَرِ، أتَى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مُظْهِرًا الإسلامَ، وَمَحَبَّةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَدْنَاهُ النبيُّ مِنْ مَجْلِسِهِ، ولمَّا خرجَ مِنْ عِنْدِهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ المسلمينَ وُحُمُرٍ، فأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَعَقَرَ الحُمُرَ؛ فأنزلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة: 204-205]؛ فكانَ مِنْ مَظَاهِرِ نِفَاقِهِ، وسُوءِ طَوِيَّتِهِ، إِفْسَادُهُ للبيئةِ، بِإِهْلاكِ الحرث والنَّسْل، فَسَمَّاهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- فَسَادًا، واللهُ لا يُحِبُّ المفْسِدِينَ.
الآدابِ الَّتِي يَنْبَغِي للمُتَنَزِّهِينَ أنْ يأْخُذُوا بِهَا
فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله: واعلمُوا أنَّ منَ الآدابِ الَّتِي يَنْبَغِي للمُتَنَزِّهِينَ أنْ يأْخُذُوا بِهَا مَا يَلِي:
أولًا: اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وتقديمُ صحبة الوالدينِ والزوجةِ والأبناءِ عن غيرهِم والمحافظةُ على الصَّلاةِ جماعةً في وقْتِهَا، والتأذينُ لكلِّ صلاةٍ.
ثانيًا: حِفْظُ النَّفْسِ، وعدمُ تَعْرِيضِهَا لمواطِنِ الهَلاكِ، بالمبيتِ أو المكوثِ في الأوْدِيَةِ والشِّعَابِ، أو قَطْعِهَا حالَ جَرَيَانِ الأمْطَارِ، كما يَفْعَلُ بعضُ الشَّبَابِ -أصلحَهُم اللهُ- باقتحامِ الأوديةِ ومجاري السّيولِ بالسبَاحَةِ أو بالسَّيَّارَاتِ غير عابِئِينَ بتوجِيهَاتِ الدِّفَاعِ المدنِيِّ، فضلًا عن أرْوَاحِهِمْ، وأرواحِ مرافِقِيهِم، فيَحْصُلُ مَا لا يُحْمَدُ عُقْبَاهُ.
ثالثًا: الحفاظُ على البيئةِ الطبيعيَّةِ، والْحَذَرُ مِنْ إِفْسَادِهَا أوِ العبثِ بهَا بإلقاءِ المخلفاتِ البلاستيكيةِ والزُّجَاجِيَّةِ وبقايا الأطْعِمَةِ وقَطْعِ الأشجارِ أو إِفْسَادِ النَّبَاتِ قالَ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَطَعَ سِدْرةً صوَّبَ اللهُ رَأْسَهُ فِي النّارِ”(أخرجه أبو داود (5239) وحسّنه ابن حجر (3/201).
رابعًا: تنزيهُ البيئةِ عن المُخَلَّفَاتِ؛ فالنظافَةُ أصلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وأَقَلّ مَا يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يَتْرُكَ المكانَ كَمَا كانَ، والْكَمَالُ أنْ يَتْرُكَ المكانَ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ.
خامسًا: الحذرُ من إشعالِ النِّيرَانِ في أمَاكِنِ المتنزِّهِينَ، وتعرِيضِهِمْ للخَطَرِ، أو إيذائِهِمْ بِهَا، والحرصِ على إخْمَادِ النِّيرانِ في الأماكِنِ المسموحِ فيهَا بإشعالِ النَّارِ.
سَادسًا: تَجَنُّبُ الاعتداءِ على المحميَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ، وعدمُ الصَّيْدِ أو الاحْتِطَابِ للمحافظةِ على الغطاءِ النَّبَاتِي، والشَّكْل الْجَمَالِي، والتَّوَازُنُ البِيئِيّ.
سابعًا: مراعاة الأنظمَةِ البيئِيَّةِ، وقواعد الدِّفَاع المدنِيِّ، واتِّبَاع توجيهات القائِمِينَ على هذا الأمرِ، والتي تُحَقِّقُ المصلحةَ العامَّةَ للجميعِ، وتَضْمَنُ سَلامَتَهُمْ.


No comment