بعد استشهاد الرئيس بالإمام السيوطي.. ما هي شروط الاجتهاد عند إمام المجددين


قال الرئيس عبدالفتاح السيسي، إن التأثير الحقيقي للكلمة والموعظة لا يكتمل إلا إذا صاحبه عمل وسلوك يُجسد ما يُقال على أرض الواقع.

وتطرق الرئيس السيسي في كلمة ارتجالية خلال مشاركته في حفل تخرج الدورة الثانية لتأهيل أئمة وزارة الأوقاف من الأكاديمية العسكرية المصرية، وذلك بمركز المنارة للمؤتمرات الدولية، إلى نموذج ملهم في التاريخ الإسلامي، وهو الإمام جلال الدين السيوطي الذي تمكن وهو في عمر الـ 62 عامًا، من تأليف 1164 مؤلفًا، في زمن لم تكن فيه أدوات الطباعة والنشر متاحة كما هي اليوم، متسائلًا: “كيف استطاع أن يُنجز كل هذا خلال عمره؟”.

وأوضح الرئيس أن المغزى لا يكمن في الرقم ذاته، بل في الإخلاص والنية الصافية التي منّ الله بها على هذا العالم، والتي مكنته من تحقيق هذا الإنجاز الهائل، مضيفًا: “نتحدث عنه اليوم بعد مرور أكثر من 500 عام، وهذا دليل على الأثر العميق الذي يمكن أن يتركه الإنسان إذا أخلص”.

ونستعرض في التقرير التالي سيرة وحياة إمام المجددين وشروط الاجتهاد التي وضعها

ولد السيوطيُّ في بلد الثقافة الموسوعيَّة، وشبَّ وترعرع في بيئةٍ علمية يسَّرَت له كلَّ أسباب التزود بالفنون والمعارف، وأحسَّ في مقتبل عمرِه بما وهبه الله من نبوغٍ مبكِّر وعبقرية فذَّة، وقدَّر حقَّ التقدير قيمةَ اعتماده على نفسه في اكتشاف التراث والغوصِ وراء المعاني، فلم يتردَّد – وهو لا يزال في ريعان الشباب – في أن يخوض غمارَ الحياة الاجتماعية؛ بالتدريسِ والإفتاء وإملاء الحديث والتصنيفِ في شتَّى العلوم والفنون، ولعلَّ هذه الجرأة من جانبه أثارت عليه حفيظَةَ بعض معاصريه ممن كانوا يرون العلم وقفًا على “كل شيخٍ وعجوز” أو بعضهم الآخر من الذين أكل الحِقْدُ قلوبَهم لما رأوا من دقَّة فهمِه وقوة استيعابه وغزارةِ علمه واعتدادِه بشخصيته، فانبرى هؤلاء وأولئك للنيلِ منه وإلصاق التُّهَم به والتشنيع عليه بأنه ادَّعى الاجتهادَ المطلَق كأحد الأئمة الأربعة مما حدا بالسيوطي إلى أن يقول: “وأمَّا ما يتعلق بدعوى الاجتهاد؛ فإني لم أَقُلْه في الابتداء صريحًا بلساني، وإنما ذكرتُ ذلك في بعض الكتب، فنقلَه من قصد التشنيعَ لا الشهرة، فلما رُوجعت فيه صِرتُ أقرِّر لمن راجعني فيه أمرَه، مع أنَّني عددتُ تصدِّي هذا العدو لإشهاره فضلاً من الله أجراه على يديه”
 
وسوف نلقي – هنا وفي المقالات القادمة – الضوءَ بإيجازٍ على دعوى اجتهاد السيوطي، ثم نتحدَّث عن دعواه الأخرى بأنه المبعوث على رأس المائةِ التاسعة، وأخيرًا نحاول إبراز مظاهر التجديد في فِقه السيوطي.
 
دعوى الاجتهاد
أول ما يلفِتُ نظرَ الباحث هو أن السيوطي ترجَمَ لنفسه في “حسن المحاضرة” اقتداءً بالمحدثين قبله[6]، وأنه اختارَ لهذه الترجمة باب: “ذكر مَن كان بمصر من الأئمَّة المجتهدين” من أمثال: عمر بن عبدالعزيز ونافع مولى ابنِ عمر، والليثِ بن سعد والإمام الشافعي، والبويطي وحرملة، والمُزَنِي ومحمد بن نصر المروزي، وأبو إسحاق المروزي وعز الدين بن عبدالسلام، والقرافي وابن دقيق العيد، وابن الرفعة والسبكي، وابنه عبدالوهاب وسراج الدين البلقيني”، وهذه إشارةٌ إلى أنه يعتبر نفسَه من الأئمة المجتهدين.
 
وفي ترجمته لنفسِه نجده يلمح إلى أنه نشأ نشأةً مباركة: “وحُمِلْتُ في حياة أبي إلى الشيخ محمد المجذوب – رجلٌ كان من كبار الأولياء بجوار المشهد النفيسي – فبرَّك عليَّ”، وفي عملِه بالحديث الشريف: ((ماءُ زمزم لِما شُرب له)) قال: “ولما حَججتُ شربتُ من ماء زمزم لأمور منها: أنْ أَصِل في الفقه: إلى رُتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديثِ: إلى رُتبة الحافظ ابن حجر”. وفي حديثه عن الإمام النووي يقول: “وقد كنتُ في أول اشتغالي رأيتُ الشيخَ في النوم وكأني حضرتُ درسه…، ثم إنه ركب حمارًا عاليًا ومشيتُ خلفه مسافةً يسيرة، فأعطاني عمامته وفارقتُه، فانتبهت”.
 
وفي ترجمته لنفسه يقول: “وقد كملَت عندي الآن آلاتُ الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله تعالى لا فخرًا، وأيُّ شيء في الدنيا حتى يُطلب تحصيلها بالفخر، وقد أَزِفَ الرحيلُ، وبدا الشيب، وذهب أَطْيَب العمر! ولو شئتُ أن أكتب في كلِّ مسألة مصنَّفًا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركِها ونقوضها وأجوبتِها والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها – لقدرتُ على ذلك من فضل الله”
 
لقد أثارت دعوى السيوطي الاجتهادَ جدالاً كبيرًا استطاع أن يصوِّره لنا بقلمه: “ثم استهلَّت سنة تسع وثمانين، ولهم ضجيجٌ وعَجِيج، ولا عجيج الحَجِيج، وجروا قضيةَ دعوى الاجتهاد، واجتمعوا بكلِّ كبيرٍ في البلد مِن كاتب السرِّ والأمراء والرؤساء، وسألوهم في رفع الأمر إلى السلطان ليعقد بيني وبينهم مجلسًا يناظرونني فيه، فلما بلغني ذلك قلتُ: العلماء قد نصُّوا على أنه لا يسوغ للمجتهد أن يناظر المقلِّد، فمناظرتي تحتاج إلى حضورِ مجتهدَين: مجتهد يناظِرُني، ومجتهد يكون حَكَمًا بيني وبين مَن يناظرني وفي مقامٍ آخر يقول: “جولوا في الناس جولةً؛ فإنه ثَمَّ من ينفخ أشداقَه ويدَّعي مناظرتي، وينكر عليَّ دعوايَ الاجتهاد والتفرُّد بالعلم على رأس هذه المائة، ويزعم أنه يعارِضني ويستجِيش على مَن لو اجتمع هو وهم في صعيدٍ واحد ونَفَخْتُ عليهم صاروا هباءً منثورًا”
 
حكم الاجتهاد:
أورد السيوطيُّ نصوصًا لعلماء من جميع المذاهب تتَّفق على أن الاجتهاد في كلِّ عصرٍ فرض من فروض الكفايات؛ إذا اشتغل بتحصيلِه واحدٌ سقط الفرضُ عن الجميع، وإن قصَّر فيه أهلُ عصرٍ عَصوا بتركِه وأشرفوا على خطرٍ عظيم، وأنه لا يجوز شرعًا إخلاءُ العصر منه؛ لأن الخلوَّ من مجتهد يلزم منه اجتماع الأمَّة على الخطأ، وهو تركُ الاجتهاد الذي هو فرضُ كفاية، وأن ترك الاجتهاد يؤدِّي إلى إبطال الشريعة؛ لأن قوامَ الشرع بالمجتهدين
 
شروط الاجتهاد:
نقل السيوطي في “تقرير الاستناد” آراءَ جماعةٍ من العلماء – كالشهرستاني والرافعي والنووي والغزالي والتميمي والرازي والأرموي وابن الصلاح – في الشروط التي ينبغي توافرها لبلوغِ رُتْبة الاجتهاد، والعلوم التي لا بدَّ منها لتحصيل هذه الرتبة، ثم حاول حصرها في خمسة عشر، وبيَّن مدى انطباقها على حالته مما سوَّغ له ادِّعاء الاجتهاد.
 
أحدها:علوم الكتاب العزيز وهي كثيرة جدًّا، قال: إنه جمع في أصولها كتاب “الإتقان في علوم القرآن”، وفي أسبابِ النزول: “لباب النقول”، وهو كتابٌ لم يؤلَّف مثلُه، وصنَّف فيما ورد من الأخبار والآثار في معاني الآيات: “الدُّر المنثور في التفسير بالمأثور” وفي معرفة ما استنبطه العلماء منه في الأحكام: “الإكليل في استنباط التنزيل”، وفي معرفة أسراره وبلاغتِه ومجازاته وأساليبه “أسرار التنزيل”، وكثير غير ذلك.
 
الثاني: علوم السنَّة، وهي مائةُ علم، قال: إنه شرحها في الكتب التي ألَّفها في علوم الحديث، وأحاط بها إحاطةً شاملة.
 
الثالث:علم أصول الفقه، قال: وقد ألَّفتُ فيه منظومةَ: “جمع الجوامع” وشرحتُها.
 
الرابع: علم اللُّغة، قال: ويُرجع في ذلك إلى كتب اللغة؛ كصحاح الجوهري بتكملته للصغاني والعباب والقاموس ونحوها، وإلى الكتب المؤلَّفة في غريب القرآن وغريب الحديث.
 
الخامس: المعاني المفهومة من السياق، قال: وألَّف فيه الراغب كتابَه “مفردات القرآن”، وعقدتُ له في الإتقان فصلاً.
 
السادس والسابع: النحو والصرف، قال: وكُتُبي فيهما كثيرةٌ، ولو لم يكن إلاَّ: “جمع الجوامع” وشرحُه لكان فيهما غنية كبيرة.
 
الثامن والتاسع والعاشر: المعاني والبيان والبديع، قال: وقد ألَّفتُ فيها ألفيَّةً وشرحتُها

الحادي عشر: علم الإجماع والخلاف، وهذا يؤخذ من غضون الكتب، ولا يشترط حفظ الكلِّ، بل يعرف مواقعَه ليراجعه عند الحاجة.
 
الثاني عشر: علم الحساب، قال: وهذا شرط في المجتهد المطلَق في جميعِ أبواب الشرع، أما المجتهد فيما عدا الفرائض ونحوِها فلا يُشترط فيه.
 
الثالث عشر: فقه النفس.
 
الرابع عشر:الإحاطة بمعظم قواعد الشرع، وهذا وما قبله واحد.
 
الخامس عشر: علم الأخلاق ومداوةِ القلوب، أخذًا من كلام صاحب “قوت القلوب”
 
وهكذا يكون السيوطي قد أثبتَ ما ادَّعاه حين قال: “وقد كملَت عندي الآن آلاتُ الاجتهاد بحمد الله تعالى”
 
طبيعة اجتهاد السيوطي:
حدَّد السيوطيُّ في كثير من كتبِه ورسائلِه ومقاماته طبيعةَ الاجتهاد الذي يدَّعيه، فبيَّن أنه “مجتهدٌ مطلَق منتسب” تابعٌ للإمام الشافعي رضي الله عنه، وتحرير ذلك: أنه نقَل عن أئمة المذاهبِ وأصحابِهم الأمرَ بالاجتهاد والنهيَ عن التقليد، وخاصَّة قول أبي طالب المكي في قوت القلوب: “اعلم أن العبد إذا كاشفه الله بالمعرفةِ واليقين لم يسَعْه تقليد أحدٍ من العلماء، وكذلك كان المتقدمون: إذا افتتحوا هذا المقامَ خالفوا مَن حملوا عنه العلم، ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليدَ”
 
كما نقل عنهم أن المجتهد المطلق هو الذي يتأدَّى به فرضُ الكفاية، أما المجتهد المقيَّد: فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يتأدَّى به فرضُ الكفاية، ويظهر تأدِّي الفرض به في الفتوى، وإن لم يتأدَّ به في إحياء العلوم التي منها استمدادُ الفتوى

وخلص من ذلك إلى أن المجتهدين يندرجون تحت خمسة أنواع[33]:

النوع الأول: المجتهد المستقلُّ؛ وهو الذي استقلَّ بقواعده لنفسه، يبني عليها الفقهَ خارجًا عن قواعد المذاهب المقرَّرة، وهذا شيءٌ فُقد من دهرٍ، بل لو أراده الإنسانُ اليومَ لامتنع عليه ولم يَجُز له؛ لاستيعاب المتقدمين لسائر الأساليب.
 
النوع الثاني: المجتهد المطلَق غير المستقل، وهو الذي وُجدَت فيه شروطُ الاجتهاد التي اتَّصف بها المجتهدُ المستقل، ثم لم يبتكر لنفسه قواعدَ، بل سلك طريقَ إمامٍ من أئمَّة المذاهب في الاجتهاد، فهذا مطلَق منتسب لا مستقلٌّ ولا مقيَّد، قال: “وادَّعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر الحنيفة أنهم صاروا إلى مذاهبِ أئمتهم تقليدًا لهم، ثم قال: والصحيحُ الذي ذهب إليه أصحابُنا، وهو: أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي، لا تقليدًا له، بل وجدوا طريقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطُّرُق، ولمَّا لم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفةَ الأحكام بطريق الشافعي”
 
النوع الثالث: المجتهد المقيَّد أو مجتهد التخريج: وهو الذي يستقلُّ بتقرير أصولِه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلَّته أصولَ إمامِه وقواعده، وشرطُه: كونه عالمًا بالفقه وأصولِه وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيرًا بمسالك الأقيِسَة والمعاني، تامَّ الارتياض في التخريج والاستنباط، قيمًا بإلحاق ما ليس منصوصًا عليه لإمامه بأصوله، ولا يعرى عن شوب تقليد له لإخلالِه ببعض أدوات المستقلِّ؛ بأن يخلَّ بالحديث أو العربية، وكثيرًا ما أخلَّ بهما المقيَّد…، وهذه صفةُ أصحابنا أصحاب الوجوه
 
النوع الرابع: مجتهدُ الترجيح: وهو الذي لم يبلُغ الرتبةَ السابقة، ولكنَّه فقيه النَّفْس، حافظٌ لمذهب إمامه، عارِف بأدلَّته، قائمٌ بتقريرها، يصوِّر ويحرِّر ويقرِّر ويمهِّد ويزيِّف ويرجِّح، غير أنه قاصر في الارتياض في الاستنباط ومعرفةِ الأصول ونحوها من أدلتها
 
النوع الخامس: مجتهد الفتيا: وهو الذي يقوم بحفظِ المذهب ونقلِه وفهمِه في الواضحات والمشكلات، ولكن عنده ضعفٌ في تقريرِ أدلَّته وتحرير أقيِسَتِه، فهذا يُعتمد نقلُه وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه
 
وفي ختام هذا الموضوع يقول السيوطي: “والذي ادَّعيناه هو الاجتهاد المطلق، لا الاستقلال، بل نحن تابعون للإمامِ الشافعي رضي الله عنه، وسالكون طريقَه في الاجتهاد امتثالاً لأمرِه، ومَعْدُودون من أصحابه، وكيف يُظَنُّ أن اجتهادنا مقيد، والمجتهدُ المقيَّد إنما ينقص عن المطلَق بإخلاله بالحديث أو العربية،ج”

عدد المشاهدات : 86

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *