خطبة الجمعة القادمة مكتوبة للشيخ ثروت سويف بعنوان “لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ”

الشيخ ثروت سويف

الشيخ ثروت سويف من علماء وزارة الأوقاف


خطبة الجمعة القادمة بتاريخ ١٨ أكتوبر ٢٠٢٤م الموافق ١٥ ربيع الثاني ١٤٤٦ه‍ تحت عنوان ( لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ )

اقرأ في هذه الخطبة

أولا : السخرية وحرمتها
ثانياً : انواع السخرية
ثالثاً: السخرية في حياة  الأنبياء والمرسلين والصالحين
الخطبة الأولي
الحمد لله الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا…
الذي له ملك السموات والأرض وخلق كل شيء فقدره تقديرًا…
خلق الإنسان من نطفة أمشاج يَبتليه فجعله سميعًا بصيرًا…
ثم هداه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا…
فمن شكر كان جزاؤه جنة وحريرًا ونعيمًا وملكًا كبيرًا…
ومَن كفر لم يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا…
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تجعل الظلمة نورًا…
وتحول موات القلب بعثًا ونشورًا، وتحيل ضيق الصدر انشراحًا وحبورًا…
وكيف لا وقد أتى علينا حين من الدهر لم نكن شيئًا مذكورًا…
فخلَقَنا وصوَّرنا ورزقنا وكان فضله علينا كبيرًا…
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده المرسل مبشِّرًا ونذيرًا…
وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا…

قُرئ عليه القرآن ففاضت بالدمع عيناه، وكان ما تقدم وما تأخر من الذنب مغفورًا… القائل في سنته (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)(رواه البخاري)
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى من فاز بنسبه وصحباه…
عدد أنفاس مخلوقاتك شهيقًا وزفيرًا…

خطبة الجمعة القادمة مكتوبة للشيخ ثروت سويف


أما بعد:

فلقد نهى الله عن الاستهزاء والسخرية لأنها رذيلة من أخس رذائل البشر وصفةٌ من أقبح صفاتهم هذا الخلق الذميم يدل على خسة صاحبه ولؤم طبعه وفساد نشأته وانحطاط مستواه الخلقي .

أولا :  السخرية ( التنمر ) وحكمها

عباد الله : إن السُّخْرِيَةُ هي الِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ، بالناس وَالتَّنْبِيهُ عَلَى عُيُوبِهم وَالنَّقَائِصِ مما يَضْحَكُ الناس مِنْهُ، وَقَدْ تكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ أَوْ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِ الشخص إذَا تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلَطَ أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ أَوْ قَبِيحِ صُورَتِهِ وهى بعينها ما يسمي اليوم بالتنمر

أما عن حكم السخرية والاستهزاء ….

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: ٤٩] الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةُ الضَّحِكُ بِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: ١١] مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ وَسَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ.

عباد الله: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِعِبَادِهِ، تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا وكذا حرمها المصطفي في السنة النبوية واجمعت الأمة علي ذلك حتى عدت من الكبائر

موضوع خطبة الجمعة القادمة مكتوبة للشيخ ثروت سويف

كما ثبت في صحيح مسلم عن عبدِ اللَّهِ بن مسعُودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مَنْ كِبرٍ فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُه حَسَنًا، ونعلهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: إِنَّ اللَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ . رواه مسلم.

والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقَر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له.
وقد أنزل فيها قرآنا يتلي فجاء الحكم في النداء الثاني والسبعون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان في القرآن الكريم وهو النداء الرابع في سورة الحجرات

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11] صدق الله العظيم
وقد تضمنت الآية الكريمة ثلاث نواهٍ .
الأول: عدم السخرية.

والثاني : عدم اللمز.
والثالث : عدم التنابز بالألقاب
حَيْثُ وَصَفَ اللهُ مَنْ لَـمْ يَتُبِ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَلَـمْزِ النَّاسَ بِأَنَّهُ ظَالِـمٌ، والظالمون مالهم من نصير

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيةِ: “إِنّ َاللهَ عَمَّ بِنَهْيِهِ الْـمُــؤْمِنِيـنَ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِجَمِيعِ مَعَانِي السُّخْرِيَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِـمُــــؤْمِنٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْ مُؤْمِنٍ: لَا لِفَقْرِهِ، وَلَا لِذَنْبٍ اِرْتَكَبَهُ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ”
أما لماذا نزلت!

فسَبَبُ النُّزُولِ عجيب : كما ذكر البغوي، وابن الجوزي، والسيوطي في تفاسيرهم عدة أقوال نذكر منها سببين
الأول : سبب نزول قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ ) قال ابن عباس نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، رضي الله عنه وذلك أنه كان في أذنيه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أخذ أصحابه مجالسهم، فضن كل رجل بمجلسه، فلا يكاد يوسع أحد لأحد، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسًا يجلس فيه، قام قائمًا كما هو، فلما فرغ ثابت من الصلاة، أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل، فقال له: تفسح، فقال الرجل: قد أصبت مجلسًا، فاجلس، فجلس ثابت خلفه مغضبًا، فلما انجلت الظلمة، غمز ثابت الرجل، فقال: من هذا ؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة، وذكر أمًّا له، كان يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه، واستحيا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وفي رواية قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : من الذاكر فلانة ؟ فقال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت ؟ قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود ، قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى

الثاني : سبب نزول قوله تعالى : ( ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً  منهن ) أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر . وقد قال الله تعالى : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه فشمل الجميع .

قال المفسرون : نزلت في امرأتين من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – سخرتا من أم سلمة ، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة – وهو ثوب أبيض ، ومثلها السب – وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها ، فقالت عائشة لحفصة – رضي الله عنهما : انظري! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب ، فهذه كانت سخريتهما .

فالإنسان يظلم نفسه بتحقير من وقره الله ، والاستهزاء بمن عظمه الله .
ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع .

وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالمنطق ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا
ولله در القائل
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ……وحظك موفورٌ وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ ……فكلك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً……يوماً فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى……وفارق ولكن بالتي هي أحسن
ثانياً: أنواع السخرية بالمؤمنين
1 ـ السخرية باللقب :

ينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته

فقد يقترن اسم شخص بإسم مضحك، أو صفة غريبة نتيجة لحادث، أو لموقف معين فيتحول ذلك الاسم إلى لقب له رغم تسببه لحرج شديد لشخصيته وهي ما عبر عنه القرآن ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) الحجرات .
إن التلفظ بالألقاب بقصد الإساءة للآخرين، وجعلهم مثاراً للسخرية والضحك من أسوء العادات التي أبتلي بها المجتمع الإسلامي  وجاء في الحديث عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب من الجنة فيقال لهم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال له هلم فما يأتيه من الإياس } رواه البيهقي مرسلا [كنز العمال ح8328].

ولابن أبي حاتم وغيره عن عبدالله بن عمرو  مرفوعا: «من مات همازا لمازا ملقبا للناس كان علامته أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشدقين» رواه البيهقي في شعب الإيمان
وعنه صلى الله عليه وسلم: ( لا تحقرن أحداً من المسلمين فإن صغيرهم عند الله كبير ) [تنبيه الخاطر ص25].

وأشارت بعض الاحاديث والروايات إلى حرمة سب المومن بل عدته من الكفر كما ورد عن النبي الأكرم «صلى الله عليه واله وصحبه وسلم»: (سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، واكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه).

2 ـ السخرية بالفقر :
من السنن الإلهية في الخلق أن أعطى الله البعض نعمة وحرِم البعض الآخر منها، وجعلهم على مستويات متباينة ودرجات متفاوتة؛ ليمحص إيمانهم ويبتلي صبرهم وحمدهم ،وجعل من مظاهر هذا التفاوت الغنى والفقر، ولم يجعل ذلك مقياساً لتقوى المرء وإيمانه. فكم من فقير هو في قمة الإيمان والزهد ، وكم من غني هو في قمة الانحطاط والرذيلة؛ لذا رفض الإسلام أن نجعل الفقر مثارا للسخرية بالمؤمنين بسبب سوء الملبس، أو المسكن أو المأكل ، وشدد بالوعيد على من يفعل ذلك فقال تعالي ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[ سورة التوبة: 79]

أورد القرطبي في تفسيره أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره وقلة ذات يده شهره الله يوم القيامة ثم فضحه ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى على تل من نار يوم القيامة حتى يخرج مما قال فيه وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرب وليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده

ومما قاله لقمان لأبنه وهو يعظه : ( يا بني لا تحقرن أحداً بخلقان ثيابه، فإن ربك وربه واحد ) وَكَمَا جَاءَ فِي الْـحَدِيثِ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا  عَثَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» (رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
3 ـ السخرية بالخلقة :

عباد الله : إنَّ النَّفْسَ لتَشْمَئِزُّ مِمَّن يَسْخَرُونَ مِنْ أَشْكَالِ الخَلْق
لَا يُعَابُ المَرْء علَى فَقرِه ولاشَكْلِه إنَّمَا يُعَابُ عَلَيْهِ قُبحُ لِسَانِه و رَدَاءَة أَخْلَاقِه

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك» (الترمذي وقال: حسن).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم . وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال .

ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه . فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية . ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة . بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، لا تلك الذات المسيئة

هؤلاء الساخرين كَأنَّمَا جَمَعُوا جَمَالَ يُوسُفَ وَمَا يَعْلَمُون أنَّ سَبَّ الْخَلْقِ مِنْ سَبِّ الْخَالِقِ
وَإنَّهُ لسُوءُ أَدَبٍ مَعَ اللَّه وَجَلَّ جَلَالُهُ يَقُول: “لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ “

طاللَّهُ جَمِيلٌ لَا يَخْلُقُ إِلَّا الْجَمَال
لما خلق الله الخلق جعل بينهم فوارق، وتمايز لحكمة لديه، فتجد هناك الأسود والأبيض ، والأعرج والصحيح ، والمبصر والبصير ، وهناك الهزيل والسمين ، والطويل والقصير وغيره من الصفات التي يتفاوت البشر بها إلا أنها لا تفصح عن مكنونات النفس، وخفايا القلب. ومن جعل ذلك النقص ذريعة لاستنقاص المؤمنين والسخرية منهم فهو بعيد كل البعد عن رابطة الإسلام، وغير مدرك بحقيقته ، وفي التاريخ الإسلامي عبرة بالغة بذلك وإليك بعض النماذج :

يقال رأى بعض الصحابة ساق عبد الله بن مسعود فضحكوا عليها . فبلغ ذلك رسول الله . فقال : أتهزؤون منه إنها في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل اُحد .

ويذكر أبن المبارك إن المطر أنقطع عن أهل المدينة فكان الناس، يخرجون للاستسقاء، فلا يسقون ، يقول : فخرجت يوماً فإذا بعبد أسود نحيف بجواري رفع يده إلى السماء، وأقسم على رب العزة أن ينزل المطر فما استتم دعائه حتى سقط المطر من لحظته ، فتتبعته فرأيته يدخل سوق النخاسة ، فاشتريته فلما كنا في الطريق سألته عما بلغه من تلك المنزلة ، فارتعب وقال: ائذن لي أن أصلي ركعتين فصلى ثم رفع يده وقال : اللهم إن السر الذي بيني وبينك قد أنكشف فأقبض إليك روحي . فمات من ساعته .

٤ : أتعيب الصنعة ام تعيب الصانع

عباد الله إن خلق الله صناعة الله فلا تعيب صنعة ربكم
دخل رجل أعرج شديد العرج علي أحد من ادعوا الغني والعظمة فنظر إليه باحتقار وتنمر عليه وقال ماذا تريد يا أعرج فنظر إليه الرجل طويلا فقال هذا المتكبر ما تريد يا أعرج فرد عليه قائلاً
  أَتَعِيبُ الصّنْعَةَ أَمْ تَعِيبُ الصّّانِع !؟
فأفحـمه حتى نـدم عـلى سـوء أدبـه مـعـه ، وقال : والله لـوددت عـنـدها أن أكـون أنا مـثـله وهـو مثـلي
أَتَعِيبُ الخَالِقَ أَمْ تَعِيبُ المَخْلُوق !؟
ما سمي سيدنا نوح بهذا الاسم  الا لأنه مر بكلب فناح لذلك فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعبتني أم عبت الكلب، فناح لذلك ولقب بنوح.
وقيل: لأنه رأى كلباً ميتاً فكرهه، فأوحي الله إليه: هذا خلقنا فاخلق أنت مثله، فصار يبكي وينوح، قاله البوني.

وقيل: إنه رأى كلباً له أربعة أعين فاستقبحه فقال له الكلب: يا نوح أتعيب لصنعتي، فلو كان الأمر إلىّ لم أكن كلباً، وأما الصانع فهو الذي لم يلحقه عيب فصار يبكي وينوح قاله في العقائق.

ففي هذا إشارة إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئاً من مخلوقات الله تعالى فإن الله لم يخلق شيئاً من العالم سدىً.
لا تعيب خلق الله ولو كان شيئا حقيرا
حكى الكمال الدميري

عن القزويني أن رجلاً رأي خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه؟ أحسن شكلها أم أطيب ريحها؟ فابتلاه الله بقرحه عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب فقال: هاتوه ينظر في أمري، فقالوا: ما تصنع بطرقي، وقد عجز عنك حذاق الأطباء؟ فقال: لابد لي منه، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء فضحك الحاضرون، فتذكر الرجل العليل القول الذي سبق منه فقال: احضروا ما طلب فإن الرجل على بصيرة، فاحضروا له الخنفساء ورد رمادها على قرحته فبريء بإذن الله تعالى، فقال للحاضرين ما وقع منه قال: إن الله أراد أن يعرفني أن أحسن المخلوقات أعز الأدوية. كتاب شرح صحيح البخاري للسفيري المسمي المجالس الوعظية في شرح أحاديث سيد البرية

٥ – السخرية من أهل المعاصي
أيها المؤمنون عظموا شرعَ الله، وعظموا دينَه، وتمسَّكوا به لعلكم تفلحون، واحفظوا ألسنتكم من أقوال سيئة قد تؤدي بكم إلى شر وبلاء
وقيل: “رُبَّ معصيةٍ أورثَتْ ذُلًّا واستصغارًا، خيرٌ من طاعة أوجبَتْ عُجبًا واستكبارًا”
روي الإمام مسلم عَنْ جُنْدَبٍ بن عبدالله البَجَلي رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: أَنَّ ((رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) أَوْ كَمَا قَالَ؛ رواه مسلم، ومعنى ((يتألَّى عليَّ))؛ أي: يُقْسِم عليَّ ودافعوا عن إخوانكم ضد كل ساخر ومستهزء
روي الإمام أحمد عن معاذ بن أنس الجُهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكاً يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبّه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)) رواه أحمد في مسنده،

ثالثاً: السخرية قديمًا من الأنبياء والمرسلين
وهذا الإستهزاء لم يسلم منه نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الحد الذي وصف الله سبحانه وتعالى هذا الفعل بوصية المجرمين والمفلسين لبعضهم بعضاً كما قال الله تبارك وتعالى: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) سورة الذاريات: 52-53، وقال الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) سورة الانعام:10.

فقضية الاستهزاء موجودة على مر الزمن، فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ » وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ » وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾ [المطففين: 29 – 31]، هؤلاء الناس الذين يستهزئ الواحد منهم، أو الجماعة منهم بمؤمن أو مؤمنة؛ فحسابهم عند الله عسير، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوب على المبتلى بهذه الآفة الخطيرة
لقد سخروا من المؤمنين كما سخروا من الأنبياء والمرسلين
اخي المؤمن  “ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ”..!
‏فلا تسخر: من المبتلى في أهله بأن تقول عنه: “ضعيف شخصية”
وذكر لنا القرآن الكريم نماذج من الإستهزاء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبل المجرمين من أقوامهم، فذكر استهزاء وسخرية قوم نوح من نوح عليه السلام

فسيدنا (نوح عليه السلام) كانت زوجته عاصية …!!
ولكنه كان عند الله صفيًّا ( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) الإسراء
قال تعالى في حق نوح وقومه ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)هود
كانوا يرونه يبني سفينته في البر ، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون
يا نوح صرت بعد النبوة نجارا .

ولما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : أبني بيتا يمشي على الماء ; فعجبوا من قوله وسخروا منه .
قال إن تسخروا منا أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة .
فإنا نسخر منكم كما تسخرون غدا عند الغرق . والمراد بالسخرية هنا الاستجهال ; ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلوننا .
‏ولا تسخر: من المنبوذ من قومه بأن تقول عنه: “عديم قيمة” …
فسيدنا (إبراهيم عليه السلام) كان منبوذًا في قومه …!!
ولكنه كان عند الله خليلاً …( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا )
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [ سورة النحل: 120]
‏ولا تسخر: من السجين بأن تقول عنه: “ظالم مجرم” فسيدنا (يوسف عليه السلام) كان سجينًا …!!
ولكنه كان عند الله صِدِّيقًا …( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا )
‏ولا تسخر: من المفلس بعد غناه بأن تقول عنه: “سفيه فاشل”
فسيدنا (أيوب عليه السلام) أفلس بعد غناه …!! ولكنه كان عند الله نبيًّا …
وقد أثنى الله تبارك وتعالى على عبده أيوب في محكم كتابه {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(44)} ص
وسخر عدو الله فرعون من كليم الله موسي وسجل لنا القرآن الكريم سخرية واستهزاء فرعون وحزبه من موسى عليه السلام قال الله تبارك وتعالى: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) سورة الزخرف: 52.

‏ولا تسخر: من بسيط المهنة بأن تقول عنه: “قليل شأن” فسيدنا (لقمان) كان نجارًا أو خياطًا أو راعيًا …!!
ولكنه كان عند الله حكيمًا …( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) لقمان
وسيدنا داوود كان صاحب صنعة ويأكل من عمل يده وكان ملكا نبينا ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) الانبياء

‏ولا تسخر: من الذي يذكره الناس بسوء بأن تقول عنه: “موضع شبهة”
فسيدنا ومولانا (محمد صلى الله عليه وآله وسلم) قيل عنه: ساحر ومجنون …!!
ولكنه كان عند الله حبيبًا…

قال الثعلبي: وروي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أو غيره: أن موسى لما أرد فراق الخضر قال له الخضر: استودعك الله، فقال له موسى: أوصني، فقال له الخضر، لا تكن مشاء في غير حاجة، وإياك واللجاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد
وروى الطبراني في الصغير والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا قال البيهقي والمحفوظ الموقوف { إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا ، فجعلت أكرمكم أتقاكم ، فأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان خير من فلان بن فلان ، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم ، أين المتقون } . وفي الحديث الصحيح { من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه }

رُوِيَ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَرَّ مَعَ اَلْحَوَارِيِّينَ عَلَى جِيفَةٍ فَقَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ مَا أَنْتَنَ رِيحَ اَلْكَلْبِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا أَشَدَّ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ وَ قِيلَ لَهُ لَوْ اِتَّخَذْتَ بَيْتاً فَقَالَ يَكْفِينَا خُلْقَانُ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا.موسوعة الكلمة
‏فلا تسخر أبدًا أو تنتقص من قدر أحد فكلنا يعترينا النقص واجعل طبعك: “حُسن الظن في الآخرين” ‏

ودع الخلق للخالق …
‏واحذر: من توزيع أقدار الله على «هواك»، فكلنا حاملون للعيوب ولولا رداء من الله: اسمه 《الستر》
لانحنت أعناقنا من شدة الخجل …
اللهم: استر عوراتنا وآمن روعاتنا ولا تجعلنا من الغافلين ..
عباد الله البر لا يبلي والذنب لا ينسي والديان لا يموت اعمل ما شئت كما تدين تدان وبالكيل الذي تكيل به يكتال لك
جمع وترتيب ثروت سويف امام وخطيب ومدرس

عدد المشاهدات : 560

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *