خطبة الجمعة القادمة مكتوبة للشيخ مكرم عبد اللطيف بعنوان اعلاء قيمة السعي والعمل

خطبة الجمعة القادمة للشيخ مكرم عبد اللطيف

خطبة الجمعة القادمة للشيخ مكرم عبد اللطيف


خطبة الجمعة القادمة مكتوبة للشيخ مكرم عبد اللطيف بعنوان اعلاء قيمة السعي، ٢١صفر ١٤٤٧ هـ الموافق ١٥ اغسطس ٢٠٢٥م

عناصر الموضوع:

1- شرف العمل وأهميته للبناء الاقتصادى والتنمية

2-توْجيهات الإسلام الدَّاعية إلى العمل

3-أهمية إتقان العمل ودوره في التنمية والتقدم

العنصر الاول :

شرف العمل وأهميته للبناء الاقتصادى والتنمية

============================

من القواعد العامة في الإسلام،

أن المال مال الله والناس مستخلفون فيه،

وألا تكون الأموال دولة بين الأغنياء ويحرم الإسلام كنز المال وعدم إنفاقه على الفقراء والمحتاجين ، ويكره طغيان الغني

ويحرم الإسلام الربا أي الكسب بدون عمل أو مخاطر ويدعو إلى العمل، وتوفير العمل لكل قادر ،

إن أفضل الكسب، كسب الرجل من يده، وإن الله يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال وكذا حرم الله الرشوة

ان الاقتصاد الاسلامي يحارب الربا وقد يكون هو السبب المباشر لوجود الازمة الاقتصادية الحالية والآية الكريمة رقم “276” من سورة “البقرة” ذكرت أن الله يمحق الربا، قال تعالى(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) وحكمة التحريم قد تحتاج لبحث مطول، ولكن أقل ما يقال فيه إن الإسلام يحض على التعاون والإنتاجية وعدم استغلال البشر لبعضهم البعض أو أن ينتهز أحدهم حاجة الآخر ليدخل معه في عملية الربا وأن تكون النقود مصدراً للدورة الإنتاجية واستمرارية دورة الحياة لا أن تكون النقود سلعة بحد ذاتها كما أن الآية السابقة وضعت البديل وفق منهج التشريع الإسلامي الذي لا ينهى عن شيء إلا أن يأتي بالبديل

والمتمثل هنا بأن يربى الله الصدقات، والصدقات نظام تكافل اجتماعي تم تطبيقه على المستوى الدولي في عهد الخليفة عمر بن العزيز وفوائدها لم تكن مقتصرة على المسلم ولكن استفاد منها حتى أهل الذمم من الرسالات الأخرى وكان الريع الاقتصادي في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز يعتمد بصورة كبيرة على الزكاة وهو ما يمكن تسميته بالنظام الضريبي المالي ولم تكن الدولة تدخل لحسابه ومحاسبة المتهربين من دافعي الزكاة وملاحقتهم قانونياً ولكن كان الأمر متروكاً إلى أن يقوم كل شخص بصورة طوعية بإحضار زكاة ماله لبيت مال المسلمين خوفاً من مخالفة الرقيب العتيد ولأن الزكاة ركن من أركان الإسلام كالصلاة والصوم

والمسلم مطالب بأدائها فإن إبليس خطط لبعض أتباعه بهدم ركن الزكاة مما جعل الناس لا سيما المسلمون يقعون تحت براثن الربا وأضراره كما هوالحال في الازمة المالية الحالية وإذ نعلم أن هناك صعوبة كبيرة في تطبيق نظام الزكاة بحيث تكون مصدراً من مصادر الدخل الحكومي إلا أنه ليس من الاستحالة وقد صرحت بعض الدول بإنشاء صناديق للزكاة يصرف ريعها في خدمة المجتمع .

الإسلام يقرر حقيقةَ أن المُلكَ لله وليس لأحد ملك خارج عنه؛ إذ الأرضُ ومن فيها لله وحدَه؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ [المائدة: 18]، وأن المال أيضًا ملك لله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 34]، غير أنَّ الله – تبارك وتعالى – قد جعل للإنسان ولايةً على ذلك المال وملكًا مجازيًّا له؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 16]، وجعله مستخلفًا فيه وقائمًا عليه؛ قال – تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 8]، غَيْرَ أنَّ هذه الملكية وهذا الاستخلاف من أجل أن يستعينَ العبد على طاعة الله والإنفاق فيها، فإنَّ هذه الدنيا وسيلة وليست غاية في ذاتها، فهي تبلِّغه الآخرة.

إن هذه التصوُّرات التي يُمليها النظامُ الاقتصادي الإسلامي على الأفراد، تُهيِّئه أولاً لتقبُّل قواعده وأصوله التي سوف يُبنى عليها، وهي أيضًا تجعل الإنسانَ يقف على حقيقة ما عليه في هذه الحياة، وما هو المطلوب منه، فينشأ المجتمع خاليًا من الطمع والجشع اللَّذين يقع فيهما بعض الناس متذرعًا بأنه يسعى لطلب الرزق.

وكما قلنا فإن العقيدة الإسلامية راعتْ في نظامها الاقتصاديِّ الفطرةَ، فإنَّ الإسلامَ جاء ليُقوِّم الفطرة، لا ليقضي عليها؛ فإنَّ لها ضروريَّات، وقد أقر الإسلامُ بعضَ الفطر كحب المال؛ قال – تعالى -: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 21]، ولكن كان يَجب تهذيب هذا الحب، لا أن يدفع صاحبه للحصول عليه مما حرَّم الله.

ترسم الشريعة الإسلامية منهجًا شاملاً لكلِّ جوانب الحياة، بِما فيها حياة الإنسان الاقتصاديَّة بوصْفِها وسيلةً إلى أهداف أسْمى، أبرزُها ابتِغاء مرْضاة الله – جلَّ شأْنُه – فيتحقَّق بذلك سعادة البشَر في الدَّارين: الدنيا والآخرة.

وقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالجانب الاقتصادي، فأوضحت الحرام، وقاعدة الحلال التي يقوم عليها النَّشاط الاقتصادي للإنسان، منتجًا ومستهلكًا وصانعًا … إلخ، ووضعت له من التَّشريعات الإسلامية ما يكفل سلامتَه وعدم انْحرافه.

كما أنَّ الشَّريعة لم تقِف عند بيان الحلال والحرام، وإنَّما حثَّت وشجَّعت النَّشاط الاقتِصادي النَّافع، وجعلت الكسْب الطَّيِّب جزءًا لا يتجزَّأ من الإيمان والتقْوى، ونَهت الإنسان عن الاستِكانة إلى الفقْر، ما دام في طاقته أن يتخلَّص منه، ويرتقي إلى مراتب الغنى.

ولعلَّ المتتبِّع للآيات القُرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة، وآثار السَّلف المجيدة – يُدْرِك مدى تلك العناية البارزة، التي ربطتِ السُّلوك الاقتِصادي للمسلم بعقيدته الإسلامية، في حين انسلخت الاقتصاديَّات الوضعية عن الجوانب الروحيَّة والأخلاقيَّة، وركَّزت على الجوانب المادِّيَّة في النشاطات الاقتصادية، ولعلَّ ذلك يبرز مدى ما يملكه المجتمع المسلم من تعاليم اقتصادية إسلامية، متميزًا عن غيره من المجتمعات الأخرى، التي عرفت مذاهب اقتصاديَّة رئيسة، أخفقت في علاج المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البشرية، كالرأسمالية التي أقامت بنياتها على الحرية المطلقة وآليات السوق، أو كالاشتراكية التي نشدت سعادتها والعدالة المطلقة من خلال الاقتصاد الآمر، وتملُّك الدولة لمعظم وسائل الإنتاج.

ولأنَّ من النَّاس من يُمارس نشاطه الاقتِصادي عملاً أو إنتاجًا، أو استهلاكًا أو استثمارًا، أو يكون في حالة بطالة، أو متأثِّرًا بِمذهب اقتِصادي غير إسلامي، ويخفى عليه معرفة موقف الإسلام من النَّشاط الاقتِصادي، وإيمانًا بِواجب الإسْهام في كشْف بعْضِ جوانب النَّشاط الاقتِصادي من منظور إسلامي

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» كان يصنع الدروع للحرب والجهاد في سبيل الله تعالى، وهي مهنة صعبة وشديدة وخطيرة.

إنّ الله تعالى قد عظّم من شأن العمل، ورَفعَ قدر العاملين في هذه الحياة، وجعل عمل المؤمن علامة الإيمان الحقيقي؛ فأرفَقَ جُلّ آياتِ الإيمان بالعمل الصالح. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3].

وإنّ رفعة الأمم وتقدمها مربوط بحجم عطاء أبناء الشعوب والأوطان في تلك الأرض، ولا ننسى ما فعله ذو القرنين من تغيير ثقافة شعب كسول خامل عن العمل، كما ورد في سورة الكهف، وماذا كانت نتيجة حركتهم وبذلهم وعطائهم.

كما أنّ الناظر بتمعّن فيما ورد في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي المصطفى ليكتشف أنّ للعمل عظمةً وجلالًا ومكانةً عالية المقام والقيمة في رحاب الإسلام وشريعته.

ويمكن إيجاز نظرة الإسلام للعمل فيما يأتي:

العَمَل مُهِمَّةٌ شَرِيفَةٌ، وَضَرُورَةٌ حَتْمِيَّةٌ لاستِمْرَارِ الحَيَاةِ وَامتِدَادِ العُمْرَانِ.

العمل مكفّر للسيئات والخطايا؛ يقول بعض السلف: إِنّ من الذّنُوبِ ذنوبًا لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة، كما ورد في المعجم الأوسط للطبراني: «مَنْ أَمْسَى كالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ».

العمل شرفٌ للإنسان وسبيلٌ للكسب الحلال، كما أنّ العمل عبادة مفروضة، وذلك تصحيحًا لمفهوم العبادة عند البعض، فما كانت العبادة أن تصفّ قدمك في الصلاة فحسب؛ بل هي لفظ يشمل كل ما يرضي الله تعالى من قول أو فعل أو عمل.

لا يطلب العمل من الفقير فحسب، أو من يريد المال؛ بل العمل فريضة تطلب من الغني قبل الفقير؛ وما كان عمل الأنبياء- وهم أشرف الناس- لتحصيل المال؛ بل للاستعفاف عن سؤال الغير.

العمل عبادة لكن بشروط العبادة!!

العمل سبب في تقدم الأمم والشعوب، والبطالة تقتل الطموحات والأحلام، وتشجع الشعوب المتكبرة والمتجبرة على احتلال الدول الفقيرة، غير العاملة.

إِنَّ الإِسْلامَ يَمْـقُتُ الكَسَلَ، وَيُنَفِّرُ مِنَ العَجْزِ وَالاستِكَانَةِ وَاليَأْسِ، وَهُوَ لا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ ضَعِيفًا فَيَذِلَّ، أَوْ مُحتَاجًا فَيَطْمَعَ، أَوْ مُتَقَاعِسًا فَيَتَخَلَّفَ. وكان النبي يتعوّذ بالله من الكسل والخمول، فكان من دعائه: ((اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)).

من ثمرات العمل: عفة النفس، القيام بالمهمة التي من أجلها خلقك الله تعالى، تنشيط الجسد والحفاظ عليه، إشغال النفس عن الحرام، سبب من أسباب الرزق، وهو سبب في التقدم الحضاري والعمراني، كما أنه رفعة للعبد عند الله وبين الناس في المجتمع.

القرآن الكريم يتحدّث عن قيمة العمل والعمّال في الإسلام:

لقد عنيت آيات الكتاب المجيد بذكر ما أمر الله به في نصوصه المقدسة الراقية، ومن بين الأوامر قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

كما اشتملت سور القرآن على ذكر عدد من أنبياء الله تعالى الذين سادوا الدنيا بمهنتهم ورسالتهم، وشرفت بهم الحياة بعظمتهم في السعي والعمل الجاد فيها.

وجدنا أنبياء الله تعالى ومرسليه لم يكتفوا بأنهم رسل وأنبياء؛ بل عملوا وجدّوا واجتهدوا وما اعتمدوا في التكسّب على أحد؛ بل تحرّكوا وقاموا يبنون بأيديهم حياتهم ومعايشهم، وبرغم أنهم كانوا في شغل بالدعوة إلى الله، لكنها ما منعتهم أن يحترفوا الحرف والمهن والصناعات الكريمة، التي تعفّهم عن سؤال غيرهم، لننظر إلى هذه النماذج الرائعة، وذلك على النّحو التالي:

1- داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ

بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11]. وقد قال صلى الله عليه وسلّم عنه، كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عَنِ المِقْدَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» كان يصنع الدروع للحرب والجهاد في سبيل الله تعالى، وهي مهنة صعبة وخطيرة وشديدة

2- سيدنا نوح كان نجّارًا يعمل بيده؛ لذا أمره الله تعالى بصناعة السفينة، فقال له: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]. ويقول عزّ وجل أيضًا آمرًا نوحًا عليه السلام: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 37، 38، 39].

3- وقد. أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى أن موسى عليه السلام اشتغل برعي الغنم عشر سنين أجيرًا في أرض مدين قبل أن يبعثه الله رسولًا، قال الله تعالى، على لسان الرجل الصالح من أهل مدين: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27].

4- وهذا سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلّم، الذي لو طلب أن تتحوّل الجبال له ذهبًا لكان له ذلك، لكنه أبي إلا أن يعيش حياة البشر، يجوع كما يجوع الناس، ويعمل كما يعمل المجدّون والمجتهدون، فعمل برعي الغنم في أول حياته، وعمل بالتجارة، كما تاجر في مال خديجة زوجه فيما بعد.

توجيهات نبوية:

«مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ» (سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط، وهو حديث صحيح).

عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» «رواه البخاري في الصحيح».

وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد «وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: مَرَّ عَلَيَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيَّ جَلْدَةَ وَنَشَاطَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ” إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعُفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ». (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ، وَرِجَالُ الْكَبِيرِ رِجَالُ الصَّحِيحِ

العنصر الثانى:

توجيهات الإسلامي الدَّاعية إلى العمل

====================

يشجِّع الإسلام كلَّ أنواع العمل والأنشطة الاقتصادية، التي تتفق مع تعاليمه، والقُرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة يحفلان بالتَّوجيهات التي تؤكِّد أهمِّيَّة السَّعْي الدَّائب في حياة الفَرْد والمجتمع، وتثبت أنَّ مُمارسة النَّشاط الاقتصادي المشروع تتحقَّق بمقتضاه الخلافة التي أرادها الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[سورة البقرة: الآية (30).].

وبالتَّأمُّل في القرآن الكريم نجِده يوجه الإنسان في أكثر من آية إلى العمل والسعي في مناكب الأرض، لعمارتها والاستفادة من خيراتها، واستثمار ما في ظاهرها وباطنها؛ فهو القائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[سورة الملك، الآية (15).].

كما أنَّ القرآن الكريم الذي ذكر رحلتَي الشتاء والصيف، ولم يمنع أتباعه عن مباشرة أنشطتهم الاقتصادية، ولو كانوا في موسم الحج والعبادة؛ كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}[سورة البقرة الآية (198).].

كما دعا الإسلام إلى النَّشاط الاقتِصادي دعوةً صريحة في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً}[سورة الجمعة الآية (10).].

ورغْم ما في الآيةِ الكريمة من أمرٍ إلَهي بالانتِشار في الأرْض، ليُمارس المسلِم نشاطَه الاقتصادي، فإنَّها في الوقْت نفسِه استهدفتْ حِفْظَ التَّوازُن المطْلوب، بين عمل المسلم في الدُّنيا، وعمله في الآخرة، حينما مَزَجَتِ العمل الدنيوي بذِكْر الله – سبحانه – كثيرًا، أو حينما آختْ بين الجانب المادِّي والجانب الرُّوحي، اللَّذَيْن يتكوَّن منْهما الإنسان، فلا يطغى أحدُهُما على الآخَر في ظل الهداية الإسلاميَّة، التي تعْطي كلاًّ من المادة والروح حقَّهما من الرِّعاية والعناية؛ حتَّى لا يقع الإنسان في هزال الرهبانيَّة، أو في سعير الشَّهوات المادِّيَّة

وذلك على النَّقيض من الاقتِصاديات الوضعيَّة التي قصرت عنايتَها على الجانب المادِّي، الذي أصبح الهدف الوحيد للنَّشاط الاقتِصادي للإنسان المعاصر، دون مراعاةٍ أو التفاتٍ للجوانب الأخرى، كالقِيَم والمبادئ الأخلاقيَّة والروحيَّة؛ {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}سورة الأنعام الآية (29).]؛

إذْ إنَّ الشيوعيَّة الماركسيَّة تنكر الأديان، وتعتبِرها أفيون الشعوب، وتركز على التطوُّر المادِّي للحياة، وتَمحو مشاعر الإِخاء في النُّفوس البشريَّة، كما أنَّ الرَّأسمالية، وإن كانت لا تنكر الدِّين والأخلاق؛ إلا أنَّها قصرتْها على نطاق الكنيسة، وأبعدتْها عن القيام بدوْرٍ إيجابي في نظامِها الاقتِصادي، ومن ثَمَّ؛ فإنَّ “التفاعُل الدِّيناميكي بين النُّظم الدِّينيَّة والدنيويَّة ليس له وجود في المجتمع الرَّأسمالي أو الاشتراكي”

مما جعل التخلص من جحيم الحياة المادية، الفارغة الجوانب الروحية والأخلاقية، عن طريق الانتحار أو غيره – ظاهرةً تشهدُها المجتمعات المعاصرة، فالتَّركيز على جانبٍ من جوانب الحياة الإنسانيَّة، وإهْمال بقية الجوانب الأخرى – يتنافى مع ما جاءت به شريعة الإسلام، التي تنظم أمور المعاش كما تنظِّم أمور المعاد، وتدعو لطلب الدنيا كما تدعو لطلب الآخرة؛ كما في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[سورة القصص الآية (77).].

وأنكر الإسلام على مَن يترهْبن بنية التفرُّغ للعبادة، وترك النشاط الاقتصادي أو الحط من قدره؛ كما في قوْل الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – للرجل الذي أصابه الغلوُّ في العبادة، حينما امتدحه نفر من الصحابة، بأنَّه يصلي حتَّى يرتحلوا، وإذا ارتَحلوا لم يزل يقرأ ويذكر حتَّى ينزلوا، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أيُّكم كان يكفيه علف ناقته وصنع طعامه؟))، قالوا: كلُّنا يا رسول الله، قال: ((كلُّكم خيرٌ منه))، ومن ثَمَّ فالنَّصُّ النبويُّ يوحي بأنَّ العبادة التي فرضها الله على المسلم، لا يكون أداؤُها ذريعةً للتَّراخي في نشاطِه الاقتِصادي أخذًا بنصيبِه من الدُّنيا

إذْ إنَّ الإسلام لا يرضى للمسلم أن يتخلَّى عن دوْرِه في القيام بعمارة الأرْض، وتَحقيق الخلافة فيها، من غيْر إثْم ولا عدوان، ولا يقره على الغلو في الزهد؛ فـ ((الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال))[رواه الترمذي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق بما في يدي الله، وأن تكون في ثواب المصيبة – إذا أنت أصبت بها – أرغب فيها لو أنها أبقيت لك). انظر صحيح الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا، ج9، ط1، 1352.]،

أو حرمان النفس من طيبات ما أحلَّ لها؛ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ}[سورة الأعراف الآية (32).

ولا على البطالة، فالكسْب والكدُّ طريق المرسلين – صلوات الله عليْهم أجمعين – فآدم – صلى الله عليه وسلم – زَرَع الحِنْطة وسقاها وحصدها، ونوحٌ كان نجَّارًا، وإبراهيم كان بزازًا، وداود كان يصنع الدُّروع، ونبيُّنا مُحمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان راعيًا للغنم، وأبو بكر الصِّدِّيق بزَّازًا، وعمر يعمل في الأديم، وعثمان كان تاجرًا، وعليٌّ كان يتكسَّب، فقد صحَّ أنَّه كان يؤاجر نفسَه، فالمسلم إذا خلصت نيَّته، وحسن مقصده في نشاطِه الاقتِصادي – عملاً وإنتاجًا واستِهْلاكًا – فهو في عبادة بِمفهومها العام؛ لأنَّ العبادة في الإسلام لا تقتصِر على الشَّعائر التعبُّديَّة المعروفة، كالصَّلاة والزَّكاة والصِّيام، بل تشمل “كلَّ ما يحبُّه الله ويرضاه، من الأقْوال والأعمال، الباطنة والظاهرة”، في حين أنَّ الإعراض المطْلَق عن السَّعي والكسب؛ بزعْم أن ذلك من الزهد – فكرة دخيلة على الإسلام، وصف الإمام الغزالي أصحابَها بالجهْل في قوله: “وقد يظنُّ الجهَّال أنَّ شرط التوكُّل ترْك الكسْب، وترْك التَّداوي، والاستسلام للمتهلكات، وذلك خطأ؛ لأنَّ ذلك حرامٌ في الشَّرع”

وقال الموصلي: “ولا تلتفت إلى جماعةٍ أنْكروا ذلك – يعني: الكسْب – وقعدوا في المساجد، أعيُنهم طامحة، وأيديهم مادَّة إلى ما في أيدي الناس، يسمون أنفسهم المتوكلة، وليسوا كذلك؛ يتمسكون بقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}سورة الذاريات الآية (22).] وهم بِمعناه وتأويله جاهلون؛ فإنَّ المراد به المطر، الذي هو سبب إنْبات الرزق، ولو كان الرزق ينزل علينا من السماء، لما أمرنا بالاكتساب والسعي في الأسباب؛ وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[سورة الملك الآية (15)]، وقال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ}[سورة مريم الآية (25).]، وكان تعالى قادرًا أن يرزُقها من غير هزٍّ منها، ولكن أمرَها ليُعْلِم العباد أن لا يتركوا أسباب الاكتِساب”.

وقيل لأحمدَ بْنِ حنبل: ما تقولُ في رجلٍ جلس في بيْتِه أو مسجِده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلٌ جاهل العمل؛ أما سمِع قول النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله جعل رِزْقي تَحت ظلِّ رمْحي))[وتمام الحديث – كما رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عمر، رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف؛ حتَّى يُعْبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظلِّ رمْحي، وجعل الذُّل والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم)).

انظر: المسند للإمام أحمد، ج8، ]؟!

وقال حين ذكر الطير: ((تغدو خِماصًا وتروح بطانًا))وتمام الحديث: ((لو أنَّكم كنتم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانا)).

انظر: صحيح الترمذي

وقد بيَّن ذلك الخليفةُ عمر بن الخطاب – رضي الله عنْه – حينما علِم بوجود مَن يقصِّر في العمل، وترك أسباب طلَب الرِّزْق، فقال عبارتَه المشهورة: “لا يقعد أحدُكم عن طلَب الرِّزْق، ويقول: اللَّهمَّ ارزُقْني، وقد علِم أنَّ السَّماء لا تُمطِر ذهبًا ولا فضَّة، وأنَّ الله إنَّما يرزق النَّاس بعضَهم من بعض”

وتلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[سورة الجمعة، الآية (10)].

وكان – رضي الله عنه – إذا رأى فتًى فأعجبه حالُه سأل عنه: هل له حرفة؟ فإذا قيل له: لا، سقط من عيْنِه

كما قرن القرآن الكريم بين المشاركين في النشاط الاقتصادي والمجاهدين، في آخر الآية من سورة المزمل في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}سورة المزمل الآية (20).

ورغَّب نبي الإسلام في السعي والنَّشاط بقوله: ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده))[ البخاري، ] إلى غير ذلك من النصوص الدالَّة على فضل السعي وثوابه عند الله، وذمِّ البطالة وقبحها عنده.

كما أكَّد الإسلام كرامةَ العمل الإنساني الذي يتَّفق والتَّعاليم الإسلامية، ورفع من قدْرِه والارتِقاء به إلى درجة العبادة والجهاد، طالما اقْترن بالنِّيَّة الصَّالحة، والتزم بالأحكام الشرعيَّة

يؤكِّد ذلك حديث كعب بن عجرة قال: مرَّ على النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – رجل، فرأى أصحابُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسولَ الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((إنْ كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويْن شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً مفاخرة فهو في سبيل الشيطان))رواه الطبراني، فى المعجم الكبير،

ولا ريب أنَّ هذا – بحدِّ ذاتِه – حافزٌ قوي للإقبال على العمل والإنتاج، لا يدركه إلا ذوو البصائر، الأمر الذي يمكن معه القول: بأنَّ تلك الصفة التعبديَّة للنشاط الاقتصادي في الإسلام لها أثرها الإيجابي في زيادة عرض العمل في الاقتصاد الإسلامي، ومن ثم زيادة الإنتاج من السلع والخدمات، نتيجة إقبال أفراد المجتمع المسلم على العمل، دون التأثر – بشكل كبير – بتقلبات الأجور المالية، ما دام المسلم يعمل ابتغاء ثواب الدنيا – العائد المادي – وثواب الآخرة، وذلك مما يسهم في القضاء على البطالة الاختياريَّة، وفي كبح جماح التضخُّم الذي يسود الاقتصاديات المعاصرة.

وقد حرص الإسلام على تشْجيع واستِمْرار النَّشاط الاقتِصادي للفرْد المسلم؛ لتلبية الاحتِياجات المتعدِّدة، لا للبشَر فحسْب، بل لسائر المخلوقات الأخرى، كالطَّير والحيوان، كما يُفْهم ذلك من قوْل الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي رواه البخاري: ((ما من مسلمٍ يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكُل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بَهيمةٌ؛ إلا كان له به صدقة))، وفي روايةٍ لمسلم: ((إلا كان له صدقةٌ إلى يوم القيامة))، وقد ذكر ابنُ حجر العسقلاني، ومقتضاه: أنَّ أجر ذلك يستمرُّ ما دام الغرس أو الزَّرع مأكولاً منه، ولو مات زرعه أو غرسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره”فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري،

كما أنَّ الإسلام يَحرص أشدَّ الحرْص على أن يكون جَميع أتباعِه عاملين مُنْتجين، وإن لم يتحقَّق لهم نفعٌ مادِّي في حياتِهم، باعتبار أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبْقى، وآية ذلك في الحديث القائل: ((إن قامت السَّاعة وفي يدِ أحدِكُم فسيلة، فإنِ استطاع أن لا يقوم حتَّى يغرسها، فليغرسْها))[38].

وقد يسأل سائل بقوله: ما الفائدة من غرس الفسيلة والساعة قائمة؟ وقد لا أجد أجمل مما أورده أحدُ العلماء المعاصرين للإجابة عن ذلك: “بأنَّه تكريم للعمل الذي يتعبد به المسلم لربه، والعبادة ليس لها أجل تقف عنده”

؛ لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ}[99 الحجر]، ومن ثَم فالفرد المسلم سوف يبقى عاملاً منتجًا طيلة حياته، لعلمه أنَّ الله سائله عن عمره وعمله، فهو يعبد ربه بنشاطه الاقتصادي، كما يعبد ربَّه بالصلاة والزكاة، وهذا يجعل “نشاط الفرد المسلم لا يرتبط بما تواضعت الإحصاءات الدوليَّة على تسميته بسن النشاط، وهو من 15 – 60 وينتهي الأمر، بل يمتد النشاط الاقتصادي للفرْد المسلم ما بعد ذلك

فخير الناس من طال عمره وحسن عمله كما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم.عن عبدالله بن بشر: أنَّ أعرابيًّا قال: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله))؛ انظر صحيح الترمذي

ولقد كان المسلِمون الأوائل يعرفون منزلة النَّشاط النَّافع في الإسلام وحرِصوا على مزاولته، فاصطبغت حياتُهم الاقتِصاديَّة بصبغة إسلاميَّة واضحة، فقد كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد، ويقول: لأن أموت بين شعبتي رجل، أضرب في الأرض، أبتغي من فضل الله – أحبُّ إليَّ من أن أُقْتل مجاهدًا في سبيل الله

لأنَّ الله – تعالى – قدَّم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[سورة المزمل الآية (20).].

ولأنَّه لا يتوصَّل إلى أداء الصَّلاة إلا بالطَّهارة، ولا بدَّ لذلك من كوز يستقي به الماء، وثوب يستُر العورة، ولا يحصل له ذلك إلا بالاكتِساب عادة، وما لا يتأتَّى إقامة الفرض إلا به يكون فرضًا في نفسه،

ومرَّ رجل على أبي الدرداء وهو يغرس جوزة فقال: “أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهي لا تطعم في كذا وكذا عامًا، فقال: ما عليَّ أن يكون لي أجرُها، ويأكل منها غيري”

فلم يكن العائد المادي أو الحافِز الاقتِصادي هو الباعث الوحيد للنَّشاط الاقتِصادي في الإسلام، كما في الاقتِصاديات المعاصرة، التي اعتبرت المعاش مقصد الإنسان الأساس، ففصلت بين الاقتِصاد والدين، وإنَّما كان هناك هدفٌ آخَر على المدى الطويل، يتمثَّل في كسْب رضا الله الذي يبتغيه المسلم من وراء نشاطِه الاقتِصادي، الذي يتميَّز بالبُعْد الزَّمني في أهدافه، التي لم تعد تقتصِر على الحياة الدنيا فحسب، التي لم يخلق فيها الإنسان عبثًا؛ لقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[سورة المؤمنون، الآية (115).]، وإنَّما يمتد إلى ما بعدها، التي هي غايته في إطار الهدف الأسمى والنهائي الذي من أجله خُلِق الإنسان، وهي عبادة الله تعالى؛ {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}سورة الذاريات الآية (56)..

وإذا ما تعارض الكسْب الاقتِصادي مع الهدَف الأخْروي والنِّهائي، الذي يسعى إليه المسلم ويطلُبه – وهو نيل رضوان الله وجنَّته – فإنَّ الهدف الأخير يقدَّم على ما سواه، ولو كان ذلك الكسْب يفوق كسْب إنتاج الطيِّبات من السلع والخدمات أضعافًا مضاعفة؛ {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[سورة المائدة الآية (100).]؛ لأنَّ النَّشاط الاقتِصاديَّ في الإسلام – في توظيف الموارد الاقتِصادية في الاقتِصاد الإسلامي – لا يعتمد فقط على المعيار المادي المتمثِّل في الرِّبْح والخسارة – كما هو الحال في الاقتِصاد الوضْعي – وإنَّما يعتمِد – إضافةً إلى ذلك – على مِعْيار الآخرة، المتمثِّل في ميزان الحسنات والسيئات

فالنَّشاط الإنساني بما في ذلك النَّشاط الاقتِصادي موجِب – لا محالة – للحساب، فإمَّا الثَّواب وإمَّا العقاب؛ {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [سورة العاديات، الآيتان (7 – .]، {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[سورة الكهف، الآية (49).

كما أنَّ الإسلام قد دفَع معتنِقيه إلى السَّعْي والنَّشاط الاقتِصادي بطريقٍ آخَر، يتمثَّل في إباحتِه تمليكَهم نتائجَ أعمالِهم، كإحْياء الأرْض الميتة التي لا ملك لها فمن أحياها ملكها لقوله – صلى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق))[رواه البخارى ].

وقول عمر بن الخطاب “مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له”[فتح الباري شرح صحيح البخاري،]، باعتِبار أنَّ الإحياء مصدر من مصادر الملكيَّة، وجزء من النَّشاط الاقتِصادي في نظر الإسلام، بينما يعتبر ترْك إحياء الأرض المملوكة أمرًا غيْرَ مرغوب شرعًا؛ لأنَّ فيه تعطيلاً للثَّروة الفرديَّة والقوميَّة.

وقد ثبت أنَّ عمر بن الخطَّاب – رضي الله عنْه – استردَّ بعض الأراضي التي أقْطعها رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى بلال بن الحارث المُزَني، وقال: “إنَّ رسول الله لم يُقْطِعك لتحْجره على الناس، إنَّما أقطعك لتعمل، فخُذْ منها ما قدرت على عمارته، وردَّ الباقي”.

وقد أصبح هذا الاتجاه فيما بعد أمرًا معروفًا في الفقه الإسلامي، حتى قال صاحب “المغني”: “ولا ينبغي أن يقطع الإمام أحدًا من الموات إلا ما يُمْكِنه إحياؤه؛ لأنَّ في إقْطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على النَّاس في حقٍّ مُشترك بيْنهم بما لا فائدة منه”.

بينما ذكر أبو الحسن الماوردي: “وإذا عجز ربُّ الأرْض عن عمارتِها قيل له: إمَّا أن تؤجرها، أو ترفع يدك عنها، لتدْفع إلى مَن يقوم بعمارتها، ولم يترك على خرابِها وإن دفع خراجها؛ لئلاَّ تصير بالخراب مواتًا

فالشَّارع الحكيم يحض على مداومة استثمار المالك لملكه، الذي هو في الأصل مال الله؛ قال تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[سورة النور، الآية (33).]، والبشر مستَخْلفون فيه؛ كما قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[سورة الحديد الآية (7).] لينتفع المالك والمجتمع معًا.

ومما يجدر ذكره: أنَّ إحياء الموات له آثار اقتصادية تتَّصل بالتنمية الاقتصادية، وإذا كانت الدول الإسلامية تعاني من التخلف الاقتصادي، أو مشكلة الفقر، وهو الوجه المقابل للتنمية، فإنه يمكن أن يُعْزى هذا – جزئيًّا – إلى اختِفاء وظيفة الإحياء وفق شروطها الإسلاميَّة في عالمنا الإسلامي، حيث إنَّ كثيرًا من أراضي الدَّولة الإسلامية غير مستغلَّة، ولو تبنَّت إحياءَها لأسهم ذلك في زيادة الإنتاج، وامتِصاص جزْءٍ من البطالة التي تعاني منها اقتصاديَّاتها.

وقد جعل الإسلام المقياس في التملُّك الفرْدي هو الحلال والحرام خلافًا للنظام الرأسمالي الذي أطلق العنان للملكية الفردية بغير قيود، ودون حدود، وخلافًا للنظام الاشتراكي الذي تنكَّر للفرْد انطلاقًا من فلسفة المذهب الجماعي، التي ترى أنَّ الأصل هو تدخُّل الدَّولة، إلى درجة انفرادها بعناصر الإنتاج، وحرمان الفرد من ثمرة عمله وجهده ومُمارسة النشاط الاقتصادي الذي يرغب، لا الذي يحدِّدُه له جهاز التَّخطيط المركزي، ولا غرابة بعد أن زرعت الاشتراكية بذور فنائِها أن تفشل في عقْر دارها، بعد تطبيقِها وتَمجيدها ردحًا من الزَّمن.

ولا ريب أنَّ ذلك ممَّا يتعارض مع مبادئ الإسْلام الاقتصادية، التي جاءت أكثر رحابة واستيعابًا لشؤون الفرد والجماعة، ولا تذيب الفرد في الجماعة على نحو ما تفعله الاشتراكية، ولا تغلِّب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة كما تفعل الرأسماليَّ

فالفرد والجماعة ليسا خصمين متصارعين، كما صوَّرتهما المذاهب الفردية والجماعية على السواء، فلا يوجد تحيُّز أو تعصب لطرف دون طرف في الاقتِصاد الذي يتبع شريعة الإسلام، الذي تميَّز بخاصية التوازن الكامل في رعاية المصلحة الاقتصادية للفرد والجماعة

وهكذا يؤكد الإسلام على أهميَّة النشاط الاقتصادي، الرامي لزيادة الطيبات من السلع والخدمات، ورغَّب في ذلك بالثَّواب الذي لا ينقطع طالما بقي النشاط نافعًا، الوضع الذي يُسْهم في عمارة الأرض، أو التنمية الاقتصاديَّة، كما يسمَّى في الاقتصاد المعاصر، حتى يمكن الوفاء بالحاجات الأساسيَّة للإنسان، أو ما يسمَّى بتوفير حدِّ الكفاية، المعروف في الفقْه الإسلامي، الذي يفترض على المجتمع الإسلامي توفيره لكل فرد من أفراده عجز عن تحقيقه، وذلك بدفْعِه إلى العمل وتَمكينه منه، فإذا عجز لسببٍ ما، تَحمَّل المجتمع عنه ذلك؛ لقول الرَّسول – صلى الله عليه وسلم -: ((أيَّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئَت منها ذمَّة الله تعالى))[مسند، الإمام أحمد].

ولهذا؛ فقد فرض الإسلام موارد – كالزَّكاة مثلاً – تُسْهِم في كفالة الحدِّ الأدنى من مستوى معيشة أفراد المجتمع، الذين لا يَقدرون على كفاية أنفسهم، والتَّاريخ الإسلامي مليء بالشَّواهد التي تثبت أنَّ الدَّولة الإسلامية كانت تُنْفِق على الفقراء والمحتاجين.

ورُبَّ قائل إنَّ النظام الإسلامي يتَّفق مع النظام الاشتراكي في مسؤولية المجتمع عن العامل والعمل، إلا أنَّه رغم هذا الاتفاق الظاهري في المسؤولية، فإنَّ “إطار هذه المسؤولية مختلف، ففي النظام الإسلامي يكون للفرد إرادة ذاتيَّة مؤثرة، أمَّا النظام الاشتراكي فإرادة المجتمع هي الإرادة المتفرِّدة بالتوجيه، والتي تَختفي بجوارها الإرادة الفرديَّة الشخصيَّة.

العنصرالثالث:

أهمية إتقان العمل ودوره في التنمية والتقدم

========≠====≠======

لايمكن أن ينكر احد أن من أهم الأَسبَابِ المُهِمَّةِ الَّتي لا يُختَلَفُ في مَدحِهَا وَذَمِّ تَركِهَا، للتنميةالاقتصادية إِتقَانُ العَمَلِ؛ وتجويد إِذِ النَّاسُ في هَذِهِ الدُّنيَا يَغدُونَ وَيَرُوحُونَ، وَيَعمَلُونَ وَيَكدَحُونَ، وَيُخَطِّطُونَ وَيُنَفِّذُونَ، وَيُرَاجِعُونَ أَنفُسَهُم وَيُتَابِعُونَ ثَمَرَاتِ مَسَاعِيهِم،

وَمَا لم يَهتَمُّوا بِإِتقَانِ أَعمَالِهِم وَالإِتيَانِ بها عَلَى المَطلُوبِ، فَإِنَّمَا هُم في ضَلالٍ وَسَعيُهُم إِلى وَبَالٍ.

وَقَد صَنَعَ اللهُ كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ بِإِتقَانٍ، وَأَنزَلَ في الأَرضِ هَذَا الإِنسَانَ، وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِيهَا وَأَمَرَهُ بِالسَّعيِ في مَنَاكِبِهَا وَإِعمَارِهَا، وَأَوجَبَ عَلَيهِ الإِحسَانَ وَنَهَاهُ عَنِ الإِفسَادِ فِيهَا بَعدَ إِصلاحِهَا،

قَالَ سبحانه: {صُنعَ اللهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بما تَفعَلُونَ} [النمل: 88]. وَقَالَ تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ} [النحل: من الآية 90]. وَقَالَ تعالى:{وَأَحسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ} [البقرة: من الآية 195] وَقَالَ جل وعلا: {وَأَحسِنْ كَمَا أَحسَنَ اللهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسَادَ في الأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدِينَ} [القصص:77].

وَقَالَ تعالى: {وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ} [الأعراف:56]، وَقَالَ عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205-204].

وَيَقرَأُ كَثِيرُونَ هَذِهِ الآيَاتِ وَأَمثَالَهَا، وَيَسمَعُونَ فِيهَا الأَمرَ بِالإِحسَانِ وَالنَّهيَ عَنِ الفَسَادِ، وَيَمُرُّ بهم مَدحُ المُحسِنِينَ وَذَمُّ المُفسِدِينَ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا إِنَّمَا قُصِدَ بها أَصحَابُ الوِلايَاتِ العَامَّةِ وَالمَنَاصِبِ الكُبرَى، مِنَ الحُكَّامِ وَالقُضَاةِ وَالأُمَرَاءِ وَالوُزرَاءِ، وَيَغفُلُونَ عَن أَنَّ الإِتقَانَ وَالإِحسَانَ وَرِعَايَةَ الأَمَانَاتِ وَالقِيَامَ بِالمَسؤُولِيَّاتِ، مَأمُورٌ بِهِ في كُلِّ عَمَلٍ جَلَّ أَو حَقُرَ، وَمُطَالَبٌ بِه كُلُّ أَحَدٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ،

وَأَنَّ الأُمَّةَ وَالمُجتَمَعَ بُنيَانٌ وَاحِدٌ، لا يُمكِنُ أَن يَكُونَ مُتقَنًا مُتَّزِنًا، وَفِيهِ لَبِنَةٌ مَائِلَةٌ أَو خَارِجَةٌ عَن مَوقِعِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ» (رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في الشُّعَبِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «كُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا» -ثم شَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ- (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ). نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ إِنَّ الإِتقَانَ سِمَةٌ أَسَاسِيَّةٌ في الشَّخصِيَّةِ المُسلِمَةِ، يُرَبِّيهَا الإِسلامُ في كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الأَعمَالِ، عِبَادَةً كَانَ أَو مُعَامَلَةً أَو سُلُوكًا، وَقَد جَاءَت نُصُوصٌ شَرعِيَّةٌ كَثِيرَةٌ تَحُضُّ عَلَيهِ وَتَأمُرُ بِهِ في جَوَانِبَ كَثِيرَةٍ، أَمرًا بِالإِخلاصِ في العِبَادَةِ وَرِعَايَتِهَا، وَحَثًّا عَلَى الإِحسَانِ فِيهَا وَتَجوِيدِهَا،

قَالَ تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ} [الأنعام:62-163].

وَذَمَّ سبحانه مَنِ ابتَدَعَ بِدعَةً فَلَم يَرعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَكَيفَ بِعِبَادَةٍ مَشرُوعَةٍ أَو عَمَلٍ صَالحٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ، أَو مُعَامَلَةٍ يَحتَاجُهَا النَّاسُ أَو يُضطَرُّونَ إِلَيهَا، قَالَ سبحانه عَنِ النَّصَارَى: {وَرَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَاهَا عَلَيهِم إِلاَّ ابتِغَاءَ رِضوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَينَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنهُم أَجرَهُم وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ} [الحديد:27]،

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يَقرَأُ القُرآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ). وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «يَؤُمُّ القَومَ أَقرَؤُهُم لِكِتَابِ اللهِ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ). وَفي قِصَّةِ رُؤيَا عَبدِاللهِ بنِ زَيدٍ لِلأَذَانِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام: «فَقُمْ مَعَ بِلالٍ فَأَلْقِ عَلَيهِ مَا رَأَيتَ؛ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَندَى صَوتًا مِنكَ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ?

عدد المشاهدات : 30

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *