خطبة الجمعة مكتوبة للدكتور مسعد الشايب بعنوان صناعة العقول، وأثرها في بناء الإنسان

خطبة الجمعة القادمة مكتوبة للدكتور مسعد الشايب

الدكتور مسعد الشايب من علماء وزارة الأوقاف


خطبة الجمعة مكتوبة للدكتور مسعد الشايب بعنوان صناعة العقول، وأثرها في بناء الإنسان الجمعة الموافقة 11من جمادى الأخرة 1446هـ الموافقة 13/12/2024م

أولا: العناصر:

  • 1.    العقل، ومكانته في الشريعة الإسلامية.
  • 2.    خمسٌ من خطوات صناعة العقول في الشريعة الإسلامية.
  • 3.    الخطبة الثانية: (أربعةٌ من أثر صناعة العقول في بناء الإنسان).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والأخرين، وحبيب ربّ العالمين لا رسول بعده ولا نبي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، صلاة وسلامًا عليه دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه وأتباعه وأحبابه إلى يوم الدين، وبعد:

  • (1)  ((العقل، ومكانته في الشريعة الإسلامية))

أيها الأحبة الكرام: يقول الحق تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا}[الإسراء:70]، وهذا التكريم الرباني لبني آدم له عدة مظاهر ووجوه، منها: النفخ فيهم جميعًا من روحه سبحانه وتعالى تبعًا لأبيهم آدم (عليه السلام). ومنها: خلْقهم جميعًا في أحسن تقويم، من حيث اعتدال القامة وانتصابها، وحسن المنظر والصورة، والأكل بالأيدي، والنطق والتعبير بالكتابة. ومنها: تسخير العوالم، والكائنات لهم. ومنها: الحمل في البر والبحر، والأكل من الطيبات، كما وضحت الآية الكريمة. ومنها: الإقبار والدفن، حفظًا لأجسادنا من الامتهان بعد موتهم، فلم يجعلنا كالحيوانات والطيور، تنهش أجسادها بعد موتها.

ومنها: إعطائهم جميعًا التمييز والعقل الذي هو مناط التكليف، وبه يعرف الحق (تبارك وتعالى)، ويفهم كلامه، ويُوصل إلى نعيمه، فالعقل مظهر من مظاهر التكريم لبني آدم، اختصهم الله (عزّ وجلّ) به عن بقية الكائنات، والحيوانات.

_ والعقل: يعني القدرة على الموازنة بين الأمور، بتبين الخير من الشر، والحلال من الحرام، وتمييز الصالح من الفاسد، والنافع من الضار، والأخذ بالحلال الصالح النافع، وترك الحرام الفاسد الضار، ولذا سمي العقل عقلا وحجرًا؛ لأنه يعقل الإنسان ويحجره، أي: يحبسه ويمنعه عن الحرام، والفاسد والضار.

_ ومن هنا فلا مؤاخذةَ ولا لومَ، ولا عقوبةَ على المجنون، الذي ذهب عقله، ولا على النائم؛ لأن النوم سلطانٌ على العقل، يستره، ويغطيه أيضًا، ولا على الصبي الصغير؛ لأن عقله غيرُ مكتمل، ومن هنا قال نبينا (صلى الله عليه وسلم): (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)(رواه أبو داود).

_ وقد ذم الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم مَنْ لا يستخدم عقله من الكفرة والمشركين؛ ليصل به إلى الإله الواحد، وإلى قضية التوحيد، فقال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبينا (صلى الله عليه وسلم): {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا*أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44،43]، فالاستماع والعقل مظنة الاستجابة لدعوة الرسل إلى التوحيد، وهؤلاء الكفرة والمشركين أكثرهم ليس لديه استماعٌ جيد، ولا عقلٌ يعي به؛ ومِنْ ثَمَّ، فقد سُدت عليهم منافذ الاستجابة والإيمان، فكانوا كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلًا منها.

وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ*وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:23،22]، فبالعقل أيضًا يتمايز البشر عن بعضهم البعض، فليس العاقلُ كالأحمقِ، وليس اللبيبُ كالسفيه، والأخرق.

_ والعقل أيها الأخوة الأحباب: هو الواسطة بين الإيمان والقلب، فالإيمان الذي يريده الحق تبارك وتعالى منا؛ لابد وأن يمرّ أولًا عبر العقل إلى القلب؛ حتى يكون ثابتًا كالجبال الرواسي، يدفع صاحبه إلى الجدِّ والعملِ، فالإيمان الحق كما عرفه علماؤنا هو: (ما وقر (استقر) في القلب، وصدقه العمل)، أما ذلك الإيمان الانفعالي العارض؛ فهو لا يولد إلا شخصية مهتزة في تكوينها العقدي، ضعيفة في بنائها النفسي.

فالإيمان بالله (عزّ وجلّ)، والإقرار له بالوحدانية، والعبودية؛ لابد وأن يكون قائمًا على اقتناعٍ عقلي، فلم يطلب الإسلام منا إطفاء مصباح العقل، وبعدها نعتقد ونؤمن؛ بل طلب منا إعمال الذهن وتشغيل العقل في سبيل الوصول إلى الإله الحق، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[آل عمران:190]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}[يونس:100]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[المؤمنون:80]، وقال أيضًا: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الجاثية:13،12].

ومن هنا جاء الإسلام وخاطب العقول أولًا، وحرص، أيما حرصٍ على تنبيهها، وإيقاظها من غفلتها، ومن هنا كثر في القرآن الكريم الحثُّ على استخدام العقل في قضية الإيمان والتوحيد، فقد جاءت صيغة الخطاب الموجه للسامعين: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، اثنتا عشرة مرة، وبصيغة الغيبة أيضًا مرة واحدة في سورة (يس)، فقال سبحانه وتعالى تعريضًا بهم: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}[يس:68]، وجاءت مرة واحدة بصيغة: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}[الأنعام:50].

  • _ أيها الأخوة الأحباب: إن العقل الذي نتحدث عنه اليوم على نوعين: (1) عقلٌ فطري غزيزي خلقنا الله سبحانه وتعالى به، وهو أداة العلم والمعرفة. (2) وعقلٌ مكتسب يستفاد، ويتولد من العلوم والمعارف التي نتعلمها.

يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): (وَالْعقل عقلان: عقل غريزة، وَهُوَ أَبُ الْعِلْمِ، ومربيه، ومثمره، وعقل مكتسب مُسْتَفَاد، وَهُوَ ولد الْعلم، وثمرته، ونتيجته.

فَإِذا اجْتمعَا فِي العَبْد فَذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء، واستقام لَهُ أَمْرَهُ، وَأَقبلت عَلَيْهِ جيوش السَّعَادَة من كل جَانب، وَإِذا فقد احدهما فالحيوان البهيم احسن حَالا مِنْهُ واذا انْفَرد انْتقصَ الرجل بِنُقْصَان احدهما)(مفتاح دار السعادة).

  • فالعقل الأول: ضده الجنون، والعقل الثاني: ضده السفه، والعقل الثاني: هو مادة الحديث عن صناعة العقل، هو الذي يقبلها، وتؤثر فيه أدواتها، بخلاف العقل الأول، وقد علمتنا شريعتنا الإسلامية الغراء مجموعة من خطوات بناء العقول، وصناعتها، فمنها:
  • (2)   ((خمسٌ من خطوات صناعة العقول في الشريعة الإسلامية))
  • 1ـ ملازمة العلماء، والإقبال عليهم، فهذا من صناعة العقول، وإنارتها، فقد ابتليت الأمة بمجموعة من مقطوعي النسب العلمي، فرقوا الأمة، وشرذموها، وكفروا علمائها وفقهائها، واعتدوا على تراثها بضيق أفقهم، وضحالة تفكيرهم، وعقولهم.

انظروا إلى مَنْ إليه المنتهى في علم التفسير كما يقول الإمام السيوطي في (مشتهى العقول)، إنه سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما)، الذي بلغ من العلم مبلغًا جعل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يجلسه في مجلسه، ويدخله مع كبار الصحابة (رضي الله عنهم) من أشياخ بدرً وغيرهم، وجعله يسأله ويرجع إليه في أشياء خفيت على كبار الصحابة (رضي الله عنهم)، ولذلك كان يلقب بفتى الكهول.

إن سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما) لم يبلغ تلك المنزلة العالية، والمكانة السامية عند أمير المؤمنين إلا بجده واجتهاده وبنائه لنفسه وذاته، وصناعته لعقله، فقد كان يسعى إلى العلم، ويكابد في سبيل نيله وتحصيله، ولا يتكبر على شيوخه، ولم يتكل على دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) له: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)(مسند أحمد)، وفقط، انظروا إليه، وهو يقول: (لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)، قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا فُلَانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ). فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) مًنْ ترى؟. قال ابن عباس: (فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ (نائم وقت الظهيرة)، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ (تثير وتلقي) عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ، فَيَرَانِي). فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: (لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ). قَالَ: (فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ). فقال: كان هذا الفتى أعقل مني. (سنن الدارمي)، أيضًا من خطوات صناعة العقول:

  • 2ـ استعمال العقل، والحواس التي حبانا الله بها في النظر والتدبر والتفكر، في الكتاب المنظور، وهو الكون، وكذلك في الكتاب المسطور، وهو القرآن الكريم، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، وقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ*أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ*نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ*عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ*وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ*لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُون*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ*لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ*نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ*فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:57ـ74].

وعن السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي). قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟. قال: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[آل عمران:190])(صحيح ابن حبان)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ)(المعجم الأوسط).

وفي تدبر القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29]، ويقول سبحانه وتعالى أيضًا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24]، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (...وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ…)(رواه مسلم)، أيضًا من خطوات صناعة العقول:

  • 3ـ استشارة أصحاب المواهب، والعقول، والشورى شرعًا (اصطلاحًا): هي استنباط المرء الرّأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور، ويكون ذلك في الأمور الجزئيّة الّتي يتردّد المرء فيها بين الفعل والترك، قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ*وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى:36ـ40].

وانظروا إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز، وهو يقول: (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله [أي: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة] أحب إلي من الدنيا). وقال أيضًا: (والله، إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال), فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تَحَرِّيك وشدة تحفظك؟!. فقال: (أين يذهب بكم؟ والله، إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة تلقيحًا للعقل، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهمّ، وتنقيحًا للأدب)(وفيّات الأعيان)،فالشورى هي إضافة عقل إلى عقل، وفكر إلى فكر، فبها نصل لأفضل الآراء، فهي عقل جمعي، للوصول إلى الحل والرأي الأمثل، أيضًا من خطوات صناعة العقول:

  • 4ـ ما وضعته الشريعة الإسلامية من أسسٍ للتقدم الثقافي الحضاري، فقد جاء الإسلام بتحرير العقل البشري من الخرافات، والأباطيل، والأوهام، والتقليد الأعمى، ووجهه إلى إدراك القوة الغيبية العليا الخالقة لهذا الكون المحركة له، المتحكمة فيه، وحررته من عبادة الأصنام، والأحجار، والأوثان، والحيوانات، والطواغيت البشرية، وما أكثر آيات القرآن التي دعت إلى توحيد الله (عزّ وجلّ)، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:22،21].

كما جاء الإسلام بمجموعة من النظم التي تكفل الحقوق السياسية، والاجتماعية…الخ، لجميع الطوائف والأجناس والألوان التي تعيش تحت كنفه، لا فرق بين غني وفقير، أو ذكر وأنثى، أو كبير وصغير، أو سيد وخادم…الخ، في مساواة لا يعرف لها نظير في الحضارات القديمة والحديثة، تلك النظم التي تنظم العلاقة بين الكلّ تحت كنف الإسلام، وتنظم العلاقة بينهم وبين غيرهم من الأمم الأخرى، بل تنظم لهم علاقتهم بربهم فربنا يقول في قرآنه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء:36]، ويقول سيدنا سلمان الفارسي (رضي الله عنه) وصدقه النبيّ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)(رواه البخاري).

كما أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بُعث ليتمم البناء الأخلاقي الذي جاء به الأنبياء والمرسلون من قبله، وجعل ذلك من وظيفته ودعوته فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ)(رواه أحمد)، أيضًا من خطوات صناعة العقول:

5ـ دعوة الشريعة الإسلامية إلى تعلم العلوم المدنية التي تقوم على التجربة والملاحظة، فالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة يحملان الكثير والكثير من الإشارات العلمية التي تلفت الأنظار إلى تلك العلوم، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53]، وكقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:185]، وكقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذّاريات:21،20]، ويقول النبيّ (صلى الله عليه وسلم): (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)(رواه الطبراني في الكبير).

لأجل هذه النصوص نجد الكثير من أبناء المسلمين برعوا في العديد من العلوم المدنية في مختلف المجالات وكان لهم فضل فيها على البشرية كلها، فقد ألفّ ابن سينا ت(427هـ) كتاب: (القانون في الطب) الذي أصبح مرجعًا أساسيًا في الطب لفترات طويلة، كما أن ابن النفيس ت(687هـ) هو مكتشف الدورة الدموية قبل ويليام هارفي، كما أن ابن خلدون ت(808هـ) هو أول من تكلم عن علم العمران البشري، ويعتبر بذلك مؤسس علم الاجتماع الحديث وذلك في كتابه (المقدمة).

أما ابن الهيثم ت(430هـ) فيعتبر المؤسس الأول لعلم المناظر والبصريات، ومن رواد المنهج العلمي الحديث، كما عرض الخوارزمي ت(235هـ) في كتابه: (حساب الجبر والمقابلة) أول حل منهجي للمعادلات الخطية والتربيعية، ويعتبر مؤسس علم الجبر، كما برز الإدريسي ت(559هـ) في الجغرافيا ورسم الخرائط، والبيروني ت(440هـ) هو أول من قال: بدوران الأرض حول محورها، وكان رحّالةً، وفيلسوفًا، وفلكيًا، وجغرافيًا، وجيولوجيًا، ورياضيًا، وفيزيائيًا، وصيدليًا، ومؤرخًا، ومترجمًا لثقافات الهند.

كما كان أبناء موسى بن شاكر (وهم ثلاثة أخوة) رياضيين، وفلكيين، ومشتغلين بالحيل (الميكانيكا)، عاشوا في القرن التاسع الميلادي، واتصلوا بالخليفة المأمون وبرعوا في علومهم وجذبوا حولهم علماء وأطباء ومترجمين كثيرين. وقد برع منهم أحمد في الميكانيكا جدًا، ويعدُّ جابر بن حيان ت(في القرن الثاني الهجري) أول من استخدم الكيمياء عمليًا في التاريخ، ويلقب بأبي الكيمياء، وقد برز غيرهم الكثير، والكثير الذين تمت ترجمة مؤلفاتهم إلى اللاتينية، واللغات الأجنبية الأخرى. (ويكبيديا الموسوعة الحرة، وشمس العرب تسطع على الغرب بتصرف)

عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون…………

 (الخطبة الثانية) ((أربعةٌ من أثر صناعة العقول في بناء الإنسان))

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الأحبة الكرام: صناعة العقول التي تحدثنا عن بعض خطواتها في الخطبة الأولى، لها العديد من الآثار المحمودة، التي تحتاجها الأفراد، والمجتمعات، والبلدان، والأوطان، والأمم، منها:

1ـ فهم الدين بشكل أعمق، وأوسع، وأشمل، فالمعرفة في الشريعة الإسلامية تقوم على دعامتين: (الأولى): الاستفادة من تجارب الغير سواء كانوا سابقين لنا أم معاصرين، وذلك بالاستماع إليهم. (الثانية): استعمال عقولنا، وتجاربنا في طلب الحقيقة؛ لنهتدي إلى ما لم يهتد إليه غيرنا، وصدق الله حينما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37]، وقال أيضًا: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:11،10]، فقد عبر الحق تبارك وتعالى عن الدعامة الأولى بالسماع، وعبر عن الدعامة الثانية بالعقل.

2ـ المساهمة في البناء الحضاري، الإنساني، العالمي، كما رأينا عند الكلام عن دعوة الشريعة الإسلامية إلى تعلم العلوم المدنية التي تقوم على التجربة والملاحظة، وما أخرجته لنا من علماء في كافة مجالات العلوم الكونية.

3ـ صناعة العقول أصبحت المفتاح الحقيقي لنهضة المجتمعات، وتحضرها، والضامن الحقيقي لبناء المستقبلٍ الزاهر بالعطاء، انطلاقًا من عملية بناء الشخصية ذات الفكر الواعي، والناضج، والسلوك الايجابي، الذي يولد القرارات الصحيحة، فيتمكن الجميع من اجتياز مصاعب الحياة، وظروفها وليس الحل وكما يراه البعض بكثرة الشهادات التي لا تحرك ساكنًا.

4ـ صناعة العقول تسهم في عودة باب الاجتهاد من جديد، هذا الباب الذي نواجه به المستجدات، والنوازل، والصعاب، والتحديات، فما زالت الأمة مبتلاة بمجموعة من ضيقي الأفق، والتفكيرـ الذين يسحبون زمن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعصره ببدأياته على عصرنا الحاضر بتطوره، ومستجداته، مع أن نبينا (صلى الله عليه وسلم) فتح لنا باب الاجتهاد لكل حادثة، ونازلة، ومستجد في دنيا الناس.

فَعَنْ أَنَسٍ بن مالك (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَصْوَاتًا فَقَالَ: (مَا هَذَا؟). قَالُوا: يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ. فَقَالَ: (لَوْ تَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ لَصَلُحَ). فَتَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ، فَخَرَجَ شِيصًا. فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا لَكُمْ؟). قَالُوا: تَرَكُوهُ لِمَا قُلْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ)(رواه مسلم، واللفظ لأحمد في المسند).

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها  الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

عدد المشاهدات : 92

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *