خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِمَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ للدكتور محمد حرز


خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ(( مَولِدُ الهادِي البَشِير ﷺ)) د . مُحَمَّد حِرْز 13 رَبِيعِ الأَوَّلِ 1447هـ – 5ستمبر 2025م

لتحميل خطبة الجمعة القادمة اضغط هنا

الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لَنَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُدْوَةً وَمَثَلًا، الْـحَمْدُ لِلَّهِ الْقَائِلِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظِيمَنَا وَقَائِدَنَا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، الْقَائِلُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ». فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ الْـمُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.


سَعِدَتْ بِبَعْثَةِ أَحْمَدَ الأَزْمَانُ **** وَتَعَطَّرَتْ بِعَبِيرِهِ الأَكْوَانُ
وَالشِّرْكُ أَنْذَرَ بِالنِّهَايَةِ عِنْدَمَا **** جَاءَ الْبَشِيرُ وَأَشْرَقَ الإِيمَانُ
يَا سَيِّدَ الْعُقَلاءِ يَا خَيْرَ الْوَرَى **** يَا مَنْ أَتَيْتَ إِلَى الْـحَيَاةِ مُبَشِّرًا
وَبُعِثْتَ بِالْقُرْآنِ فِينَا هَادِيًا **** وَطَلَعْتَ فِي الأَكْوَانِ بَدْرًا نَيِّرًا
وَاللَّهِ مَا خَلَقَ الإِلَهُ وَلَا بَرَى **** بَشَرًا يُرَى كَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الْوَرَى
أَمَّا بَعْدُ … فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].


عِبَادَ اللَّهِ: «مَوْلِدُ الْهَادِي الْبَشِير ﷺ» عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.

عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
أَوَّلًا: سُنَنٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ.
ثَانِيًا: يَوْمُ الْمَوْلِدِ يَوْمُ الْـمَجْدِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ.

ثَالِثًا وَأَخِيرًا: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟

أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْـمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ مَوْلِدِ الْهَادِي الْبَشِير ﷺ، وَخاصة وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا فَقَدَ فِيهِ شَبَابُنَا وَأَبْنَاؤُنَا الْقُدْوَةَ وَالـمَثَلَ الأَعْلَى فِي كُلِّ مَيَادِينِ الْـحَيَاةِ، فَبَحَثُوا عَنِ الْقُدْوَةِ فِي التَّافِهِينَ وَالتَّافِهَاتِ، وَالسَّاقِطِينَ وَالسَّاقِطَاتِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَكُونَ الْـحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَا أَحْلَى أَنْ يَكُونَ الْـحَدِيثُ عَنْهُ، وَكَيْفَ لَا؟ وَهُوَ إِمَامُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ، وَإِمَامُ الأَصْفِيَاءِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ الْـمُرْسَلِينَ، وَقَائِدُ الْغُرِّ الْـمُحَجَّلِينَ، وَصَاحِبُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى يَوْمَ الدِّينِ. وَكَيْفَ لَا؟ وَهُوَ قُدْوَتُنَا، وَأُسْوَتُنَا، وَمُعَلِّمُنَا، وَمُرْشِدُنَا، وَحَبِيبُنَا بِنَصٍّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَخاصة وَمُحَمَّدٌ ﷺ تَحِنُّ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ … وَمُحَمَّدٌ ﷺ تَطِيبُ بِهِ النُّفُوسُ … وَمُحَمَّدٌ ﷺ تَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ … مُحَمَّدٌ ﷺ دُمُوعُ الْعَاشِقِينَ تَسِيلُ لِذِكْرِهِ … وَكَيْفَ لَا؟ … كَيْفَ لَا تَشْتَاقُ إِلَى مَنْ بَكَى الْجَمَلُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَشَكَا إِلَيْهِ ثِقَلَ أَحْمَالِهِ؟!! وَكَيْفَ لَا تَشْتَاقُ إِلَى مَنْ حَنَّ الْجِذْعُ الْيَابِسُ لِفِراقِه؟!!، وَخَاصَّةً وَالْـحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثٌ جَمِيلٌ رَقِيقٌ رَقْرَاقٌ طَوِيلٌ لَا حَدَّ لِمُنْتَهَاهُ، بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَكَيْفَ لَا؟
مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأَعْرَابِ وَالْعَجَمِ **** مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
مُحَمَّدٌ بَاسِطُ الْمَعْرُوفِ جَامِعَةً **** مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ
مُحَمَّدٌ تَاجُ رُسْلِ اللَّهِ قَاطِبَةً **** مُحَمَّدٌ صَادِقُ الأَقْوَالِ وَالْكَلِمِ
مُحَمَّدٌ ثَابِتُ الْـمِيثَاقِ حَافِظُهُ **** مُحَمَّدٌ طَيِّبُ الأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ
مُحَمَّدٌ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ مُضَرٍ **** مُحَمَّدٌ خَيْرُ رُسْلِ اللَّهِ كُلِّهِمِ
 أَوَّلًا: سُنَنٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: مِنْ سُنَنِ اللَّهِ فِي الْكَوْنِ أَنَّ الضِّيَاءَ يَأْتِي بَعْدَ الظَّلَامِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي بَعْدَ الضِّيقِ، وَأَنَّ الْيُسْرَ يَأْتِي بَعْدَ الْعُسْرِ، فَكَانَ مِيلَادُ النَّبِيِّ الْعَدْنَانِ ﷺ. وَالْقُلُوبُ – يَا سَادَةُ – تَتَعَلَّقُ بِالْـجَمَالِ كَأَمْرٍ فِطْرِيٍّ جِبِلِّيٍّ، فَكَيْفَ بِمَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ الْـجَمَالَ وَالْكَمَالَ خَلْقًا وَخُلُقًا؟
لِذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أُسْوَةً حَسَنَةً لَنَا، فَالَّذِي أَدَّبَهُ وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَالَّذِي عَلَّمَهُ فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، فَهُوَ الأُسْوَةُ الْـحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الطَّيِّبَةُ، وَالْمُصْطَفَى الْـمُجْتَبَى مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ لَهُ قَدْرَهُ، وَأَعْلَى اللَّهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَطَهَّرَهُ وَرَفَعَهُ وَكَرَّمَهُ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ. زَكَّاهُ رَبُّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: • زَكَّاهُ فِي عَقْلِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: 2]. • وَزَكَّاهُ فِي بَصَرِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم: 17]. • وَزَكَّاهُ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]. • وَزَكَّاهُ فِي ذِكْرِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]. • وَزَكَّاهُ فِي طُهْرِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: 2]. • وَزَكَّاهُ فِي صِدْقِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: 3]. • وَزَكَّاهُ فِي عِلْمِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 5]. • وَزَكَّاهُ فِي حِلْمِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]. • وَزَكَّاهُ فِي خُلُقِهِ كُلِّهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمْ، اللَّهُ أَكْبَرُ! وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا * وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ: (يَا عِبَادِي) * وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا فَأَحْلَمُ النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَشْجَعُ النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَعْدَلُ النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَعَفُّ النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَسْخَى النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَجْوَدُ النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَعْقَلُ النَّاسِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَشَدُّ النَّاسِ حَيَاءً مُحَمَّدٌ ﷺ، وَأَجْمَلُ النَّاسِ خَلْقًا وَخُلُقًا وَصَوْتًا وَبَهَاءً مُحَمَّدٌ ﷺ. نَعَمْ أَيُّهَا السَّادَةُ: كَانَ سَيِّدُنَا دَاوُدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا سَبَّحَ اللَّهَ سَبَّحَتِ الْـجِبَالُ وَالطَّيْرُ مَعَهُ لِحُسْنِ صَوْتِهِ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْـحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10]. وَأُعْطِيَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نِصْفَ الْـجَمَالِ الَّذِي بَيْنَ الْبَشَرِ، فَكَانَ شَدِيدَ الْـجَمَالِ ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: 31]. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ ﷺ فَأُعْطِيَ الْـجَمَالَ كُلَّهُ، فَقَالَ ﷺ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ، حَسَنَ الصَّوْتِ، وَإِنَّ نَبِيَّكُمْ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ صَوْتًا». فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجْمَلَ ذَاتَكَ، وَأَكْمَلَ صِفَاتَكَ، وَأَعْظَمَ فَضْلَكَ عَلَى أُمَّتِكَ، يَا حَبِيبَ اللَّهِ
صَلَّتْ عَلَيْكَ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ **** وَسَرَى الضِّيَاءُ بِسَائِرِ الْأَكْوَانِ
لَمَّا طَلَعْتَ عَلَى الْوُجُودِ مُزَوَّدًا **** بِحِمَى الإِلَهِ وَرَايَةِ الْقُرْآنِ
قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ وَفِي وَصْفِ النَّبِيِّ ﷺ:
لَمَّا رَأَيْتُ أَنْوَارَهُ سَطَعَتْ *** وَضَعْتُ مِنْ خِيفَتِي كَفِّي عَلَى بَصَرِي
خَوْفًا عَلَى بَصَرِي مِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ *** فَلَسْتُ أَنْظُرُهُ إِلَّا عَلَى قَدَرِي
رُوحٌ مِنَ النُّورِ فِي جِسْمٍ مِنَ الْقَمَرِ *** كَحِلْيَةٍ نُسِجَتْ مِنَ الْأَنْجُمِ الزُّهْرِ
إِنَّهُ الْحَبِيبُ الْمُصْطَفَى وَالنَّبِيُّ الْمُجْتَبَى الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا؛ لِيُخْرِجَ الْأُمَّةَ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالظَّلَامِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، وَيُنْقِذَ النَّاسَ مِنَ التَّنَاحُرِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْآثَامِ، إِلَى الْعَدْلِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْوِئَامِ. فَلَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ ﷺ يَعِيشُونَ فِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، يَعِيثُونَ فِي الْأَرْضِ كَالْأَنْعَامِ، يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ، يَأْكُلُونَ الْمَيْتَاتِ وَيَئِدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَسْطُو الْقَوِيُّ مِنْهُمْ عَلَى الضَّعِيفِ. ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ لِلَّيْلِ أَنْ يَنْجَلِيَ، وَلِلصُّبْحِ أَنْ يَتَنَفَّسَ، وَلِلظُّلْمَةِ أَنْ تَنْقَشِعَ، وَلِلنُّورِ أَنْ يُشَعْشِعَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْأَمِينَ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَفْضَلَ الْبَرِيَّةِ وَأَشْرَفَ الْبَشَرِيَّةِ.


فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ بَعَثَ فِيهِمْ خَيْرَ رُسُلِهِ وَخَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ وَأَفْضَلَ خَلْقِهِ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَأَيَّدَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَهُوَ رَسُولٌ مُصْطَفًى، وَنَبِيٌّ مُجْتَبًى، نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَإِمَامٌ كَرِيمٌ، قُدْوَةٌ لِلْأَجْيَالِ وَأُسْوَةٌ لِلرِّجَالِ، وَمَضْرِبُ الْأَمْثَالِ وَقَائِدُ الْأَبْطَالِ. مَعْصُومٌ قَلْبُهُ مِنَ الزَّيْغِ، وَيَمِينُهُ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَيَدُهُ مِنَ الْجَوْرِ، وَلِسَانُهُ مِنَ الْكَذِبِ، وَنَهْجُهُ مِنَ الْانْحِرَافِ. مَا سَجَدَ لِصَنَمٍ، وَلَا اتَّجَهَ لِوَثَنٍ، مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَلَا شَارَكَ قَوْمَهُ فِي لَهْوٍ وَمُجُونٍ. طَهَّرَ اللَّهُ فُؤَادَهُ، وَحَفِظَ رِسَالَتَهُ، وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ، وَنَصَرَ مِلَّتَهُ، وَأَظْهَرَ شَرِيعَتَهُ، خَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَنَصَرَ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، وَكَبَتَ بِهِ أَعْدَاءَهُ، وَخَصَّهُ بِفَضَائِلَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَيُّ أُمَّةٍ كُنَّا قَبْلَ الْإِسْلَامِ؟! وَأَيُّ جِيلٍ كُنَّا قَبْلَ الْإِيمَانِ؟! وَأَيُّ كِيَانٍ نَحْنُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ؟! كُنَّا قَبْلَ مَوْلِدِهِ أُمَّةً وَثَنِيَّةً، أُمَّةً لَا تَعْرِفُ رَبَّهَا، أُمَّةً تَسْجُدُ لِلْحَجَرِ، أُمَّةً تَغْدِرُ، أُمَّةً يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، أُمَّةً عَاقَّةً، أُمَّةً لَا تَعْرِفُ مِنَ الْمَبَادِئِ شَيْئًا. فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ قَدْرَهَا، وَأَنْ يُعْلِيَ شَأْنَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَ الْإِنْسَانِيَّةِ ﷺ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]. فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ وَاجْتَبَاهُ، وَأَحَبَّهُ لِلرِّسَالَةِ وَاصْطَفَاهُ ﷺ. بَلَغَ الْعُلَى بِكَمَالِهِ، كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ، حَسُنَتْ جَمِيعُ خِصَالِهِ، صَلُّوا عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
 ثَانِيًا: يَوْمُ الْمَوْلِدِ يَوْمُ الْـمَجْدِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: فِي يَوْمِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ وُلِدَ يَوْمُ المَجْدِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، فِي يَوْمِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ جَاءَتِ البِشَارَاتُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، لِتَكُونَ أُمَّةً مَتْبُوعَةً لَا تَابِعَةً، لِتَكُونَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. فِي يَوْمِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ وُلِدَ المَجْدُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ المَجْدَ، وَلَا مَجْدَ لِلْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فِي يَوْمِ المَوْلِدِ وُلِدَ المَجْدُ وَالعِزَّةُ وَالكَرَامَةُ وَالشَّهَامَةُ، وَوُلِدَتْ فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لِمَنْ أَرَادَهَا. المَجْدُ كُلُّ المَجْدِ، وَالعِزُّ كُلُّ العِزِّ، وَالفَخَارُ كُلُّ الفَخَارِ، لِمَنْ جَعَلَ فِي دَاخِلِهِ نِدَاءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾، سَعَادَةٌ لَا تُقَابِلُهَا سَعَادَةٌ.
فَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ أَشْرَقَ النُّورُ وَبَزَغَ الفَجْرُ، وَوُلِدَ خَيْرُ البَشَرِ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ابْنُ عَبْدِاللهِ ﷺ. وَلَقَدْ كَانَ مِيلَادُ الرَّسُولِ ﷺ مِيلَادَ أُمَّةٍ، وَمِيلَادَ فَجْرٍ جَدِيدٍ، وَمِيلَادًا لِلْقِيَمِ وَالأَخْلَاقِ، وَمِيلَادًا لِلْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَمِيلَادًا لِلْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، فَقَدْ كَانَتْ حَاجَةُ العَالَمِ إِلَيْهِ ﷺ كَحَاجَةِ المَرِيضِ إِلَى الشِّفَاءِ، وَالعَطْشَانِ إِلَى المَاءِ، وَالعَلِيلِ إِلَى الدَّوَاءِ، وَالنَّظَرِ الَّذِي تَتَمَنَّاهُ العَيْنُ العَمْيَاءُ. نَعَمْ لَقَدْ وُلِدَ الحَبِيبُ ﷺ، فَكَانَ مِيلَادُهُ ثَوْرَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَكَانَتْ بَعْثَتُهُ نَجْدَةً لِلْمَظْلُومِينَ، أُطْفِئَتْ نَارُ فَارِسٍ، وَزُلْزِلَتْ عُرُوشُ قَيْصَرَ، وَانْهَدَمَتْ قُصُورُ الاسْتِبْدَادِ، وَسَقَطَتْ شُرُفَاتُ الظُّلْمِ. وَبَعَثَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَكَانَ رَحْمَةً مُهْدَاةً لِلْعَالَمِينَ وَالنِّعْمَةَ المُسْدَاةَ، يَحْنُو عَلَى الكَبِيرِ، وَيَرْحَمُ الصَّغِيرَ، وَيُوَاسِي الكَسِيرَ، يَشْعُرُ بِمَنْ حَوْلَهُ، وَيَهْتَمُّ بِهِ اهْتِمَامًا بَالِغًا. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأَنْبِيَاء: ١٠٧]. وَقَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». فَكَانَتْ وِلَادَتُهُ ﷺ فَتْحًا، وَبَعْثَتُهُ فَجْرًا، هَدَى اللهُ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الجَهَالَةِ، وَأَرْشَدَ بِهِ مِنَ الغَوَايَةِ، وَفَتَحَ اللهُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَكَثَّرَ بِهِ بَعْدَ القِلَّةِ، وَأَعَزَّ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ. فَهُوَ ﷺ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَصَفْوَةُ الأَنَامِ، لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النِّسَاء: ٨٠]. وَيَقُولُ شَاعِرُ الإِسْلَامِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ ﷺ:
وَأَفْضَلُ مِنْكَ لَنْ تَرَى قَطُّ عَيْنِي **** وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ **** كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
فَاخْتَارَهُ اللهُ لِلنُّبُوَّةِ وَاجْتَبَاهُ، وَأَحَبَّهُ لِلرِّسَالَةِ وَاصْطَفَاهُ ﷺ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَأْفَةٌ لِلصَّالِحِينَ، وَهُوَ نِقْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَعَذَابٌ عَلَى الْمُفْسِدِينَ، لَدَى سَيِّدِ الْخَلْقِ وَحَبِيبِ الْحَقِّ، وَأَفْضَلِ الرُّسُلِ، وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، حَبِيبِ الْقُلُوبِ. وُلِدَ الرَّحِيمُ الرَّفِيقُ بِأُمَّتِهِ، وُلِدَ أَشْرَفُ الْأَعْرَابِ وَالْعَجَمِ، الْمُصْطَفَى الْعَدْنَانِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وُلِدَ خَيْرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ.
وُلِدَ الْهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِيَاءٌ **** وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ
وُلد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الاثنينِ لاثنتَي عشرةَ ليلةً خلتْ مِن شهرِ ربيعٍ الأولِ مِن عامِ الفيلِ، نشأَ ﷺ يتيمًا، ولليُتْمِ مرارةٌ وحرقةٌ لا يعرفُهَا إلَّا اليتيمُ، وكان يُتمُهُ تشريفًا لكلِّ يتيمٍ على ظهرِ الأرضِ إلى يومِ أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها ،فكفلَهُ جدُّهُ ثم كفلَهُ عمُّهُ، وأرضعتْهُ حليمةُ السعديةُ في ديارِ بني سعدٍ، ونزلتْ الملائكةُ مِن السماءِ فشقتْ صدرَهُ، وغسلتْ قلبَهُ، فنشأَ نشأةَ طُهرٍ وعفافٍ، واشتهرَ بينَ قومِهِ بالصادقِ الأمينِ، ولا عجبَ في هذا كلِّهِ فقد أحاطتْهُ الرعايةُ الربانيةُ، والعنايةُ الإلهيةُ، وهيأَ اللهُ لهُ الظروفَ مع صعوبتِهَا وقسوتِهَا، وحماهُ مِن الشدائدِ مع حدتِهَا وحرقتِهَا، وسخّرَ لهُ القلوبَ مع كفرِهَا وظلمتِهَا .رَوَى أحْمَدُ في مسندهِ بسندٍ صحيحٍ عن أبِي أُمَامَةَ قالَ:قيلَ يَا رَسُولَ اللهِ ما كانَ بَدْءُ أمرِكَ؟ قالَ: دَعْوَةُ أبِي إِبْراهِيمَ، وَبُشْرَى عيسَى ابنِ مريمَ، ورَأَتْ أمِّي أنهُ خَرَجَ منهَا نُورٌ أضاءَتْ لَهُ قُصورُ الشَّامِ ،(دعوَةُ أبِي إِبْراهِيمَ لما بَنَى إبراهيمُ عليهِ السلامُ البَيْتَ دَعَا رَبَّه فقالَ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عليهِمْ ءاياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ سورةُ البقرةِ / 129، فاستجابَ اللهُ تعالَى دعاءَهُ في نَبِيِّنَا ﷺ وجعَلَهُ الرَّسُولَ الذي سألَهُ إبراهِيمُ عليهِ السَّلامُ وبُشْرَى عيسَى ابنِ مريَمَ حيث بَشَّرَ قومَهُ بسيدِنا محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخبرَ القرءانُ الكريمُ حِكايَةً عن عيسى عليهِ السلامُ:﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يأتِي مِنْ بَعْدِي اسمُهُ أَحْمَدُ﴾ سورة الصف / 6 ، ولقد طهرَ اللهُ جلَّ وعلا أصولَ نبِيِّهِ ﷺ تطهيرًا ثم اصطفاهُ مِن هذه الأصولِ الطاهرةِ ليكونَ هدىً ونورًا ورحمةً للعالمين، فعن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إسماعيل، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (رواه مسلم). فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ تَكُونَ ذِكْرَانَا لِمَوْلِدِ نَبِيِّنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الذِّكْرَى ذِكْرَى لِسِيرَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَأَنْ يَدْفَعَنَا ذَلِكَ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِسُنَّتِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ فِي سَائِرِ شُؤُونِ حَيَاتِنَا، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]. وَاجِبُنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَنَتَّبِعَ سُنَّتَهُ ﷺ، وَنُنَفِّذَ أَوَامِرَهُ، وَنَسْلُكَ طَرِيقَهُ، وَنَقْتَدِيَ بِهِ، وَلَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وَاجِبُنَا مَحَبَّتُهُ ﷺ وَإِجْلَالُهُ وَتَعْظِيمُهُ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]. وَاجِبُنَا أَنْ نَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ نَبِيِّنَا ﷺ وَأَنْ نَسِيرَ عَلَى دَرْبِهِ لِنَسْعَدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
هٰذَا الْحَبِيبُ الَّذِي فِي مَدْحِهِ شَرَفِي **** وَذِكْرُهُ طَيِّبٌ فِي مَسْمَعِي وَفَمِي
هٰذَا أَبُو الْقَاسِمِ الْمُخْتَارُ مِنْ مُضَرٍ **** هٰذَا أَجَلُّ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمِ
هٰذَا هُوَ الْمُصْطَفَى أَزْكَى الْوَرَى خُلُقًا **** سُبْحَانَ مَنْ خَصَّهُ بِالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ
هٰذَا الَّذِي لَا يَصِحُّ الْفَرْضُ مِنْ أَحَدٍ * ***وَلَا الْأَذَانُ بِلَا ذِكْرِ اسْمِهِ الْعَلَمِ
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِسْمِ اللهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ … أَمَّا بَعْدُ:
 ثَالِثًا وَأَخِيرًا: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟
أَيُّهَا السَّادَةُ: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي دَعْوَتِهِ إِلَى اللهِ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ وَبِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؟ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].
أَيْنَ نَحْنُ أَيُّهَا السَّادَةُ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ نُضَيِّعُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا نَحْرِصُ عَلَى أَدَائِهَا، يَا رَبِّ سَلِّمْ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟» قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» (رَوَاهُ الْبُخَارِي). فَاحْرِصْ عَلَى صَلَاتِكَ تَكُنْ مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.


أَيْنَ نَحْنُ أَيُّهَا السَّادَةُ مِنْ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا ﷺ؟ نَعَمْ، لَقَدِ انْعَدَمَتِ الْأَخْلَاقُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَأَصْبَحَ الْوَلَدُ لَا يَحْتَرِمُ أَبَاهُ، وَلَا الْبِنْتُ تَحْتَرِمُ أُمَّهَا، وَلَا التِّلْمِيذُ يَحْتَرِمُ أُسْتَاذَهُ، وَلَا الْجَارُ يُحْسِنُ إِلَى جَارِهِ. مَاتَتِ الْمَبَادِئُ وَالْقِيَمُ وَالْأَخْلَاقُ، فَعَمَّ الْبَلَاءُ وَالْجَهْلُ وَالضَّيَاعُ وَالْخَرَابُ. فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَجْعَلَ أَخْلَاقَ النَّبِيِّ ﷺ مَنْهَجًا وَحَيَاةً، وَوَاقِعًا يَتَحَرَّكُ فِي دُنْيَا النَّاسِ. لِذَا حَذَّرَنَا نَبِيُّنَا ﷺ مِنَ الْمُفْلِسِ سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)).


أَيْنَ نَحْنُ أَيُّهَا السَّادَةُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؟ فَكَافِلُ الْيَتِيمِ جَارٌ لِلنَّبِيِّ الْعَدْنَانِ ﷺ، فَعَنْ سَهْلٍ قَالَ: رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ عَالَ ثَلَاثَةً مِنَ الْأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَيْنِ كَهَاتَيْنِ» وَأَلْصَقَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى. فَكَافِلُ الْيَتِيمِ جَارٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، فَأَيُّ فَضْلٍ بَعْدَ هَذَا الْفَضْلِ؟ وَأَيُّ شَرَفٍ بَعْدَ هَذَا الشَّرَفِ؟ وَأَيُّ مَنْزِلَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ؟ إِنَّهَا مُجَاوَرَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ! فَيَا سَعَادَةَ مَنْ كَانَ رَفِيقًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، وَيَا سَعْدَ مَنْ كَانَ جَارًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، وَيَا تَعَاسَةَ مَنْ أُبْعِدَ عَنْ مُرَافَقَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ.


أَيْنَ نَحْنُ مِنِ اسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ الْمَعْصُومُ ﷺ؟ فَجَدِّدْ إِيمَانَكَ فِي قَلْبِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْعَوْدَةِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَسَتِيرِ الْعُيُوبِ. فَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لَا يُغْلَقُ أَبَدًا؛ يُبْسِطُ رَبُّنَا يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيُبْسِطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا (رَوَاهُ مُسْلِم). وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِي). فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ، الْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ عَلَى مَا فَاتَ. فَأَصْلِحْ بِالتَّوْبَةِ مَا هُوَ آتٍ، وَانْدَمْ يَا مِسْكِينُ عَلَى مَا فَاتَ، وَاسْتَعِدْ لِلْيَوْمِ الثَّقِيلِ وَالْهَوْلِ الْكَبِيرِ وَالْخَطْبِ الْجَلِيلِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ. آهٍ لِنَفْسٍ لَا تَعْقِلُ آمِرَهَا، ثُمَّ جَهِلَتْ قَدْرَهَا، وَتُضَيِّعُ فِي الْمَعَاصِي عُمْرَهَا.


أَبَتْ نَفْسِي تَتُوبُ فَمَا احْتِيَالِي * ***إِذَا بَرَزَ الْعِبَادُ لِذِي الْجَلَالِ
وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ سُكَارَى **** بِأَوْزَارٍ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ
وَقَدْ نُصِبَ الصِّرَاطُ لِكَيْ يَجُوزُوا **** فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُبُّ عَلَى الشِّمَالِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسِيرُ لِدَارِ عَدْنٍ **** تُلْقَاهُ الْعَرَائِسُ بِالْغَوَانِي
يَقُولُ لَهُ الْمُهَيْمِنُ يَا وَلِيِّي **** غَفَرْتُ لَكَ الذُّنُوبَ فَلَا تُبَالِي
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
كَتَبَهُ العَبدُ الفَقيرُ إِلَى عَفوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّد حِرز إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوقَافِ

عدد المشاهدات : 154

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *