محمد فودة يكتب: معاني اليقين في القرآن الكريم


محمد فودة يكتب: معاني اليقين في القرآن الكريم

استوقفني قول الحق سبحانه وتعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين(الحجر:99) وتوقفت في هذه الآية عند معنى مهم جدا وهو دلالات وصور اليقين في القرآن الكريم فاليقين في اللغة هو زوال الشك وتحقيق الأمر بالعلم الحاصل بعد نظر واستدلال

ولذلك وجدنا الدكتور مصطفى محمود رحمة الله عليه حينما أرد أن يلخص رحلته في كتاب، اختار له اسم رحلتي من الشك إلى اليقين أو الإيمان.. يصف فيه معاناته التي احتاجت إلى ثلاثين سنه من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس حتى يصل إلى درب اليقين .. وهو يصف هذا المشهد فيقول: ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله .

وأتصور أن إيمان ويقين العوام نابع من الفطرة النقية الصافية.. ودائما ما تأسرني كلمات العوام.. هؤلاء الذين عرفوا الله بفطرتهم النقية السليمة.. لديهم يقين لا يتزحزح قيد أنملة، كنت أستشعر ذلك في همهمات أمي مع كل صلاة .. في دعاء أحدهم بعد الصلاة (توكلنا عليك يا رب.. ) صدى الكلمات في أذني يجعلني أُجزم في قرارة نفسي أننا لا شيء بجوار هؤلاء.. !

أتذكر في إحدى المرات أنني صادفت سيدة تتجاوز الخمسين من عمرها وهي تردد في الشارع بصوت مرتفع (حبيبي يا ربنا..) للوهلة الأولى التي توقفت فيها عند الكلمات التي قلت لنفسي ( إيه ده .. فيه إيه) كيف وصلت تلك السيدة إلى هذه الحالة (محبة الله) لدرجة جعلتها تصدح بها بين المارة وبأعلى صوتها !

وفي مرة أخرى كنت أؤدي التربية العسكرية نهاية 2015 .. ورأيت سيدة تجلس أمام منزلها – كانت في طريقنا للمعسكر- كلما مررت من أمامها في الذهاب أو الإياب وجدتها تردد باستمرار (يا رب يا رب يا رب…) بشكل لا ينقطع وأنا أقول لنفسي “هي الست دي مبتتعبش”.. حاولت أن أقلدها ولم أستطع وقتها ! إلى غير ذلك من المواقف…

هؤلاء وغيرهم الكثير من العوام ربما لم يأخذوا حقهم في العلم والإطلاع والقراءة لكنهم وصلوا الى درجة من اليقين وعرفوا الله بقلوبهم وفطرتهم (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).

يقين المشاهدة

لكن حينما نتحدث مرة أخرى عن اليقين سنجد أنه أمر متفاوت أو فيه درجات، فسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما طلب رؤية إحياء الموتى فقال له الله تعالى (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال ابن عاشور، قوله “بلى ولكن ليطمئن قلبي” كلام صدر عن اختباره يقينه والفاءه سالما من الشك

وقَوْلُهُ: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ مَعْناهُ: لِيَثْبُتَ ويَتَحَقَّقَ عِلْمِي ويَنْتَقِلَ مِن مُعالَجَةِ الفِكْرِ والنَّظَرِ إلى بَساطَةِ الضَّرُورَةِ بِيَقِينِ المُشاهَدَةِ، وانْكِشافِ المَعْلُومِ انْكِشافًا لا يَحْتاجُ إلى مُعاوَدَةِ الِاسْتِدْلالِ ودَفْعِ الشُّبَهِ عَنِ العَقْلِ

صور ومعاني اليقين في القرآن الكريم

وردت مادة (يَقَن) ومشتقاتها في القرآن في ثمانية وعشرين موضعاً (28) جاءت بصيغة الفعل في أربعة عشر موضعاً، من ذلك قوله سبحانه: {وبالآخرة هم يوقنون} (البقرة:4) وجاءت بصيغة الاسم في أربعة عشر موضعاً كذلك، من ذلك قوله عز وجل: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:99).

ومادة (يَقَن) ومشتقاتها وردت في القرآن على أربعة معان، هي:

الأول: اليقين بمعنى الصدق والتصديق، من ذلك ما حكاه القرآن على لسان ملكة سبأ: {وجئتك من سبإ بنبإ يقين} (النمل:22) يعني بخبر صِدْق. ومنه أيضاً قول الحق تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} (البقرة:4) يعني يصدقون بوجود الآخرة والبعث. وأكثر ما ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم وفق هذا المعنى.

الثاني: اليقين بمعنى الموت، ورد في موضعين من القرآن: الأول: قوله عز وجل: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:99) أي: ابقَ ملازماً لعبادة ربك إلى أن يأتي أجلك. الموضع الثاني: قوله سبحانه: {حتى أتانا اليقين} (المدثر:47) يعني الموت.

الثالث: اليقين بمعنى العِيان والمشاهدة، جاء على هذا المعنى قوله سبحانه: {كلا لو تعلمون علم اليقين} (التكاثر:5) يعني علم العِيان والمشاهدة. ونحوه قوله عز وجل: {ثم لترونها عين اليقين} (التكاثر:7) أي: عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقيناً، لا تغيب عن عينك.

الرابع: اليقين بمعنى العلم، من ذلك قوله تعالى في حق نبيه عيسى عليه السلام: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} (النساء:157) المعنى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما قتلوا ظنهم يقيناً، كقولك: قتلته علماً، إذا علمته علماً تامًّا، فـ (الهاء) = {قتلوه} عائدة على {الظن}. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى: وما قتلوا عيسى يقيناً لقال: وما قتلوه فقط.

وقوله سبحانه: {وفي الأرض آيات للموقنين} (الذاريات:20) قال الطبري: “وفي الأرض عِبَرٌ وعظات لأهل اليقين بحقيقة ما عاينوا ورأوا إذا ساروا فيها”. وقال القرطبي: “(الموقنون) هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم”.

ومجمل القول، أن لفظ (يَقَن) بمشتقاته أكثر ما ورد في القرآن الكريم بمعنى (الصدق والتصديق)، وورد في مواضع قليلة بمعنى (المعاينة والمشاهدة)، وورد في موضعين فقط بمعنى (الموت)، وورد بمعنى (العلم).

والله تعالى أعلى وأعلم وللحديث بقيه بإذن الله

عدد المشاهدات : 15

No comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *