موضوع خطبة الجمعة القادمة للشيخ ماهر خضير

موضوع خطبة الجمعة القادمة للشيخ ماهر خضير بعنوان “لله درك يا ابن عباس”

حبر الأمة وترجمان القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
يا عباد الله، نقف اليوم مع عَلَمٍ من أعلام الإسلام، وشمسٍ أضاءت سماء المعرفة، وشخصية فذة جمعت بين العلم والزهد والفصاحة والحكمة، إنه عبد الله بن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، رضي الله عنه وأرضاه. لله درك يا ابن عباس!
أيها الأحبة، نحن على موعد أن ننهل من معين هذا النور، ونتوقف عند محطات من حياة هذا الإمام العظيم، لعلنا نجد في سيرته ما يحيي قلوبنا، ويزيدنا إيمانًا، ويقربنا من فهم كتاب ربنا. لله درك يا ابن عباس!
المحور الأول: نشأته رضي الله عنه
لقد كانت نشأة عبد الله بن عباس مميزة، فقد ولد بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وأما أمه فهي أم الفضل لبابة أخت أم المؤمنين ميمونة وقد نشأ في كنف النبوة. وكان فتى ذكيًا فطينًا، حريصًا على العلم، وكان وسيما، جميلا، مديد القامة، مهيبا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال.

قال ابن جريج قال: كنا جلوسا مع عطاء في المسجد الحرام، فتذاكرنا ابن عباس؛ فقال عطاء: ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة إلا ذكرت وجه ابن عباس.
• دعاء النبي له: من أعظم ما تميز به ابن عباس دعاء النبي  له. فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: “ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم علمه الكتاب”. وفي رواية أخرى: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”. فكان هذا الدعاء النبوي بمثابة مفتاح فتح له أبواب العلم والمعرفة، وجعله إمامًا في التفسير والفقه.
المحور الثاني: فضائله ومناقبه العلمية
لقد تجلت فضائل ابن عباس في علمه الغزير الذي شهد له به الصحابة والتابعون:
فعن سليمان التيمي، قال: أنبأني من أرسله الحكم بن أيوب إلى الحسن، فسأله: من أول من جمع الناس في هذا المسجد يوم عرفة؟ فقال: إن أول من جمع ابن عباس.
وعن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس. فإذا نطق، قلت: أفصح الناس. فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس. وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قط.
حبر الأمة وترجمان القرآن: لقب بـ حبر الأمة، أي عالمها، وهذا اللقب لم يطلق عليه اعتباطًا، بل لغزارة علمه وفهمه العميق لدقائق الشريعة.
عن ابن عباس، قال: صليت خلف النبي –  – من آخر الليل ، فجعلني حذاءه ، فلما انصرف ، قلت : وينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله ؟ فدعا الله أن يزيدني فهما وعلما.

كان ابن عباس المرجع الأول للمسلمين في تفسير القرآن الكريم. كان يفهم معانيه الخفية، ويوضح غوامضه، ويستنبط أحكامه. وقد شهد له بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يقدمه على كبار الصحابة في الاستشارة في الأمور العويصة. عن ابن عمر؛ أن عمر دعا ابن عباس، فقربه. وكان يقول: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -دعاك يوما، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
وعن عبد الله، قال: بت في بيت خالتي ميمونة، فوضعت للنبي غسلا، فقال: من وضع هذا؟ قالوا: عبد الله. فقال: اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين، وعن مجاهد، قال: كان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علمه.
وقد بلغ مبلغا عاليا في الفهم من ذلك عن سعيد بن جبير، قال: كان ناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم. قال: وكان يسأله. فقال عمر: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون فضله؛ فسألهم عن هذه السورة: إذا جاء نصر الله فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمده ويستغفره. فقال عمر: يا ابن عباس، تكلم. فقال: أعلمه متى يموت، أي: فهي آيتك من الموت، فسبح بحمد ربك واستغفره.
• عالِم بفنون شتى: لم يقتصر علمه على التفسير والحديث، بل كان عالمًا بالفقه والشعر والنسب والتاريخ والمناظرة . كان جامعًا للعلوم، يسأله الناس من كل فج عميق.
واليكم أيها الأحبة تلك المناظرة التي دارت بين سيدنا عبدالله بن عباس والخوارج، لقد كانت تلك المناظرة نموذجًا فريدًا في كيفية التعامل مع المخالفين، بالحكمة والموعظة الحسنة، وكيف أن نور الحق يتبدد أمامه ظلام الشبهات. تعالوا بنا نسرد فصول هذه القصة العظيمة، التي لم تكن مجرد جدال، بل كانت درسًا عمليًا في فقه الدعوة والرحمة بالجهلاء
عن عبد الله بن عباس، قال: (لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة، لعلي أكلم هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك قلت: كلا، فلبست، وترجلت، ودخلت عليهم في دار نصف النهار، وهم يأكلون فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين، والأنصار، ومن عند ابن عم النبي  وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد، لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون، فانتحى لي نفر منهم قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله  وابن عمه قالوا: ثلاث قلت: ما هن؟ قال: أما إحداهن، فإنه حكم الرجال في أمر الله وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [الأنعام: 57] ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة. قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل، ولم يسب، ولم يغنم، إن كانوا كفارًا لقد حل سباهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سباهم ولا قتالهم، قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ وذكر كلمة معناها قالوا: محى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين. قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. قلت: لهم أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه، وسنة نبيه ما يرد قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95] وكان من حكم الله أنه صيره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء لحكم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين، وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، هذا أفضل وفي المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟ خرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يَسْبِ، ولم يغنم. أفتسبون أمكم عائشة، تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6] فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج، أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، وأما محي نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون. إن نبي الله يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي، واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله والله لرسول الله  خير من علي، وقد محى نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقُتِلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار) النسائي والحاكم ، والبيهقي ………………………………………………………………………………..

ورعه وزهده: لم يكن علمه مجرد معلومات، بل كان علمًا مقرونًا بالورع والخشية من الله تعالى. كان زاهدًا في الدنيا، مقبلًا على الآخرة، وهذا ما جعله قدوة حسنة في العلم والعمل.
عن ابن أبي مليكة : صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ، فكان يصلي ركعتين ، فإذا نزل ، قام شطر الليل ، ويرتل القرآن حرفا حرفا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب .

معتمر بن سليمان : عن شعيب بن درهم ، عن أبي رجاء ، قال : رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء .
عباد الله عبد الله بن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، كان له قول مأثور: “ذهب الناس وبقي النسناس”. وعندما سُئل عن النسناس، أجاب: “الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس”.

يمكن ربط هذا القول بالواقع من عدة جوانب:
تدهور القيم والأخلاق
يشير قول ابن عباس إلى زمن يقل فيه عدد “الناس” الحقيقيين، أي أولئك الذين يتحلون بالقيم والمبادئ السامية، مثل الصدق، الأمانة، الكرامة، والعدل. ويبقى “النسناس”، وهم الأفراد الذين يفتقرون إلى هذه الصفات الجوهرية، على الرغم من مظهرهم البشري. في الواقع المعاصر، يمكن ملاحظة تراجع في بعض هذه القيم في جوانب مختلفة من المجتمع، حيث قد يطغى المصلحة الشخصية والجشع على الأخلاق النبيلة.

الازدواجية والنفاق
“الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس” يمكن أن ينطبق على من يظهرون خلاف ما يبطنون، أي المنافقين. في حياتنا اليومية، قد نصادف أشخاصًا يتظاهرون بالفضيلة والصلاح بينما يمارسون سلوكيات سيئة في الخفاء. هذا النوع من الازدواجية يفرغ العلاقات الإنسانية من جوهرها ويجعل الثقة عملة نادرة.

التبعية وفقدان الهوية
قد يُفهم “النسناس” أيضًا على أنهم الأفراد الذين يتبعون الآخرين بلا تفكير، أو يفقدون هويتهم الأصلية ويسعون لتقليد الآخرين دون وعي. في عصر العولمة والانتشار السريع للمعلومات، قد ينجرف البعض وراء تيارات فكرية أو ثقافية دون تمحيص، مما يجعلهم “يشبهون الناس” في مظهرهم وسلوكهم الخارجي، لكنهم يفتقرون إلى العمق الفكري والاستقلالية في التفكير.
السلوكيات الحيوانية في ثوب بشري
على مستوى أعمق، يمكن تفسير “النسناس” على أنهم أولئك الذين تسود فيهم الغرائز الحيوانية على العقل والضمير. فعلى الرغم من كونهم بشرًا في هيئتهم، إلا أن سلوكياتهم قد تحركها الشهوات، العدوانية، أو الأنانية المفرطة، دون اعتبار للعواقب الأخلاقية أو الإنسانية. هذا يظهر جليًا في بعض الجرائم، الصراعات، أو الممارسات غير الأخلاقية التي نشهدها.

الخطبة الثانية
وفاته رضي الله عنه
ابن عباس: هو القائل ما روي عنه من وجوه:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مأثور
لقد شاء الله تعالى ان يذهب بصر ابن عباس رضي الله عنه وتلك من نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلم
عن موسى بن ميسرة ؛ أن العباس بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حاجة ، فوجد عنده رجلا ، فرجع ، ولم يكلمه . فلقي العباس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك ، فقال : أرسلت إليك ابني ، فوجد عندك رجلا ، فلم يستطع أن يكلمه . فقال : يا عم ! تدري من ذاك الرجل ؟ قال : لا . قال : ذاك جبريل لقيني ، لن يموت ابنك حتى يذهب بصره ، ويؤتى علما .
توفي ابن عباس رضي الله عنه سنة 68 هجرية في الطائف، ودفن بها.
عن بجير بن أبي عبيد ، قال : مات ابن عباس بالطائف ، فلما خرجوا بنعشه ، جاء طير عظيم أبيض من قبل وج حتى خالط أكفانه ، ثم لم يروه ، فكانوا يرون أنه علمه .

وعن سعيد بن جبير؛ قال : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طائر لم ير على خلقته ، فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن ، تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) الآية . .
وقد حزن المسلمون على فراقه حزنًا شديدًا، لما فقدوا فيه من علم وحكمة وقدوة.

إن مكانة ابن عباس في الأمة مكانة عظيمة، فهو من منارات الهدى، وقدوة للعالمين، ومثال يحتذى به في طلب العلم والعمل به.
يا عباد الله، لنتأسَ بابن عباس في حرصه على العلم، وفي ورعه وتقواه، وفي اجتهاده في فهم كتاب الله وسنة نبيه. ولنتذكر دائمًا دعوة النبي  له، ولنسعى جاهدين لتحقيقها في حياتنا بأن نكون من المتفقهين في دين الله.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.
وصلى الله على نبينا محمد
