موضوع خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف 13جمادي الأولى 1446هــ 15نوفمبر بعنوان:(المال العام وحرمة التعدي عليه)
عناصر الخطبة : موضوع خطبة الجمعة، منبر الأئمة والدعاة موضوع خطبة الجمعة pdf، موضوع خطبة الجمعة، أفضل موقع لخطبة الجمعة، موضوع خطبة الجمعة وزارة الأوقاف.
أولًا: تعريف المال والملك العام .
ثانيًا : صور سرقة المال العام .
ثالثاً: صور مشرقة في الحفاظ على المال العام .
رابعاً: دعوة الإسلام إلى الحفاظ على المال العام .
الموضوع .
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وسلم.أما بعد:
أولاً : تعريف المال العام والملك العام :
أيها الإخوة المسلمون:
المال ضرورة من ضرورات وجود الإنسان في هذا الحياة، ، ولأهمية المال في الإسلام، جُعل إحدى الضرورات الخمسة التي أوجب الشارع حفظها.
يقول الإمام الشاطبي:
( ومجموع الضرورات خمس هي: حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ).
* والمال ينقسم إلى: (مال خاص ومال عام)
–المال الخاص: هو المال الذي يملكه شخص بعينه.
–المال العام: كل مال تعود ملكيته أو منافعه لمجموع الناس والذي تشرف على إدارته الحكومة،
وهو مال مخصص لمصلحة عموم الناس أو منافعهم أو لمصلحة عامة.كالمرافق العامة التى يستفيد منها الجميع، كالمساجد والمدارس والمستشفيات والطرق ، والأملاك التي تسمي ( أملاك الدولة ).
فمن اخذ شيئا من المال العام فكأنما سرق من جميع افرادالشعب لأنه مال يشترك فيه الجميع ويعود نفعه على عموم المجتمع،
أيها المسلمون والمال العام والممتلكات العامة واحد من هذه الأموال التي يحرم الاعتداء عليها، أو التقصير والإهمال في المحافظة عليها، لأنه مال يشترك فيه الجميع ويعود نفعه على عموم المجتمع .
*حرمة المال العام :
أيها الإخوة المسلمون :
إن الدين الإسلامي بتشريعاته الحكيمة قام بحماية أموال الناس من تعدي الظالمين سواء كان ذلك بالاختلاس، أو الحرابة، أو السرقة، أو السطو، أو غير ذلك …
فشرع للملكية الخاصة حماية وحرمة وحدوداً لا يجوز لأي شخص أن يتعداها أو يحوم حولها وإلا استحق الزجر والردع على ذلك.
فعظَّم جريمة السرقة، وجعل عقوبتَها القطع؛قال تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ } [المائدة: 38].
ونهى عن الغَصْب والنهب والخيانة، ووبَّخ مَن فَعَل ذلك، وجعل له عقوبة رادعة؛ قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [النِّسَاء: 29]،
وقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في خُطبته يومَ النَّحْر في حجَّة الوداع:
“إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ”( متفق عليه ).
وعن أبي هريرة، أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: “كلُّ المسلِم على المسلم حرامٌ: دمُه، وماله، وعِرْضه” (مسلم)،
وعن أنس: أنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: “لا يَحِلُّ مال امرئ مسلِم إلاَّ بطِيب نفسه” (الدارقطني وأبو يعلى والبيهقي بسند جيد ).
والنصوص مِن القرآن والسُّنَّة في هذا المعنى كثيرة جدًّا، تبين حُرْمة التعدِّي على مال المسلم .
فشرع للإنسان الدفاع عن ماله من الاعتداء عليه بأية صورة من الصور السابقة، واعتبر شهيداً إن مات دفاعاً عن ماله، فعن أبي هريرة قال:
جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجلٌ يريد أخْذ مالي؟ قال: “فلا تُعطِه مالك”، قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: “قاتِلْه”، قال: أرأيتَ إن قتلني؟ قال: “فأنت شهيد”، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: “هو في النَّار”. (مسلم)،
وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما -: أنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ” (متفق عليه).
وإذا كان الإسلام جعل لمال الإنسان الخاص حرمة وقداسة، فإنه لم يغفل عن حرمة المال العام، بل أعلى من شأن هذه الحرمة فجعلها أشد حرمة من المال الخاص، وعني عنايةً عظيمة بالمحافظة على أموال المسلمين، وأمَرَ بصيانتها، وحرَّم التعدي عليها، وقرنت الأموال بالأنفس في مواضعَ كثيرة من القرآن الكريم .
فأمَر بالجِهاد بالأموال والأنفُس في سبيل الله، ونظَّم الأموال تنظيمًا سليمًا، فجعل في مال الزكاةً حقًّا معلومًا للفقراء والمساكين وغيرهم ممَّن ذكروا في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وجعل فيها حقوقًا مُعيَّنة معلومة، وحرَّم التعدي على أموال الأمة بغير حقّ، ولو كان شيئاً يسيراً .
فعن عدى بن عميرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا (إبرة) فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا (خيانة وسرقة) يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.(مسلم).
ثانياً : صور سرقة المال العام :
اعلموا عباد الله:
أن الله – عزَّ وجلَّ – توعَّد بالوعيد الشديد لِمَن أخَذَ من المال العام شيئًا، فقال:
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
وإن سلب القليل من المال العام ولو كان مخيطاً أو ما في قيمته يفضح به العبد يوم القيامة ويذهب بحسناته!!
ودليل ذلك ما رواه البخاري عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى؛ وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ:
هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا”،
فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ”.
وحتى منَ قاتَلَ وأبْلَى بلاءً حسنًا في المعركة، ولكنَّه غلَّ من الغنيمة، فله عقوبة شديدة، حتى ولو ظنَّ الناسُ أنَّه في عِدَاد الشهداء، فالأمرُ ليس كذلك.
في الصحيحين عن عمر – رضي الله عنه -: “لَمَّا كان يوم “خَيْبر” أقْبَلَ نفرٌ من صحابة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجلٍ، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلاَّ؛ إني رأيْتُه في النار في بُرْدَة غَلَّها أو عَبَاءَة))، ثم قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((يا ابن الخطاب، اذْهَبْ فنادِ في الناس، أنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون))،
قال: فخرجتُ، فناديتُ: ألاَ إنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
لذلك كان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – كثيرًا ما يَعِظُ أصحابَه، مبيِّنًا لهم خُطورة الغُلُول والسرقة من الغنيمة، والتي تُعَدُّ بمثابة المال العام الذي يَنبغي أن يُحفَظَ من قِبَل أفراده.
فقد روى الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ” قام فينا النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فذكَرَ الغُلول، فعظَّمه وعظَّمَ أمرَه، قال: ” لا ألفِيَنَّ أحدَكم يومَ القيامة على رَقبته شاة لها ثُغاء، على رَقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبْلَغْتُك، وعلى رَقَبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، وعلى رَقَبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، أو على رَقَبته رِقَاعٌ تَخْفِق، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك”.
فمن غل شاة جيء بها يوم القيامة تيعر وهي على كتفه، ومن غل بعيراً جاء يحمله يوم القيامة وله رُغاء يسمعه أهل الموقف على كتفه، ومن غل فرساً جاء يحمله يوم القيامة وله حمحمة ؛ ومن غل شيئاً قليلاً أو كثيراً إلا جُعل ناطقاً أمامه، حتى الذهب والفضة، من غل صامتاً، أي: ذهباً أو فضة جاء به يوم القيامة يحمله!!
ومن صور الاعتداء على المال العام تعاطى الرشوة لإحقاق باطل أو إبطال حق كما هو شائع في المصالح الحكومية، فقد أخْرَج الشيخان من حديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – قال: “استعمَلَ النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً من الأزد يُقال له: ابْن اللُّتْبِيَّة على الصَّدَقة، فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم وهذا أُهْدِي إليّ، قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: “فهلاَّ جَلَس في بيت أبيه أو بيت أُمِّه، فينظر يُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئًا إلاَّ جاء به يومَ القيامة يَحمله على رَقَبته؛ إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر”، ثم رفَعَ يدَه؛ حتى رأْينا عُفْرَة إبطَيْه: “اللهمَّ هل بلَّغْت، اللهم هل بلَّغْت ثلاثًا”.
فكل من أخذ رشوة أو حراماً يأتي حاملاً له على رقبته، مفضوحاً به أمام الخلائق يوم القيامة بنص الحديث، وبنص الآية {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. (آل عمران: 161).
و من صور التعدي على المال العام أيضاً
سرقة المرافق العامة …. ومنها: استعمال التليفون الخاص بالعمل لأغراض شخصيَّة لا تخص العمل. ……ومنها: استغلال سيارة العمل في حاجياته الخاص وتوصيل أولاده وزوجته إلى العمل…… ومنها: عدم إتقان العمل، وإضاعة الوقت، والتربُّح من الوظيفة……
ومنها: إهمال مقدرات الدولةوإساءةالتعامل معها
ومنها :تخريب وتدمير المنشآت العامة: فإن من يقوم بذلك من حرق المنشآت العامة وإتلاف الأشجار والحدائق يعد من صور التعدي على المال العام ؛
وقد توعد الله هؤلاء بقوله جل وعلا :
﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ المائدة: 33.
ومنها: الاختلاس والرشوة والسرقة والنصب والاحتيال……..ومنها: الاعتداء على أملاك الدولة والأوقاف، فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عن رَسُولِ اللَّه قال:
«مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ“
ومنها الغش و عدم الوفاء بالشروط في تنفيذ العقود، والتساهل في الرَّقابة عليها، قال صلى الله عليه وسلم:
(مَنْ حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَنْ غَشَّنا فليسَ مِنَّا) رواه مسلم.
بل من صور التعدي على المال العام: هدايا العمال لحديث النبي المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ)رواه أحمد
فهناك الكثير من الموظفين لا يقضون حوائج الناس إلا ما رحم الله إلا بعد أن يأخذ أجرًا ،ويطلقون عليه أسماء خداعة كالتدخين أو هدية أو بقشيش وكل هذه مسميات تنصب في إناء واحد
،وهو أكل أموال الناس بالباطل والله قال في كتابه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) سورة النساء آية 29
لأن ظاهر الأمر الرضا ،وباطنه العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله
.فالاعتِدَاءُ عَلَى المالِ العَامِّ ذنب عظيم ,وجرم كبير، وخزي وعار وخراب ودمار والاعتداء عليه إفساد في الأرض
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) ([البقرة:205].
لهذا كان الخلفاء الراشدون حريصين أشد الحرص على المحافظة على المال العام.
أيها الإخوة المسلمون :
حتى يبارك الله للواحد منا في ماله وأهله وولده لابد أن تكون حياته كلها قائمة على الحلال الطيب، من مأكل أو مشرب أو ملبس، وكل ما ينتفع به في حياته .
يقول تعالى :
((يَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) سورة البقرة (172)
فالمؤمن بالله لا يقبل ابدأ أن ينفق على نفسه أو أولاده من مال حرام وذلك لأنه يعلم جيداً قَول رَسُولُ اللَّه ﷺ :
( كلُّ جَسَدٍ نبتَ مِنْ سُحْتٍ فالنارُ أولَى بِهِ )صحيح الجامع – رقم : (4519) وصححه الألباني
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ مِنْهُ فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ ، فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ ؛ ، وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ .
مجموع الفتاوى : (21/541)
ثالثاً : صور مشرقة في الحفاظ على المال العام :
تعالوا بنا لنعرض لكم صورًا مشرقةً لسلفنا الصالح؛ ومواقفهم المشرِّفة في الحفاظ على المال العام .
فهذا أبوبكر الصديق لما بويع للخلافة حدد له الصحابة راتبه من بيت المال، ثم سلَّموه لقحة :”ناقة ذات لبن” ، وجفنة: “وعاء يوضع فيه الطعام”، وقطيفة: ” تلبس ويلف فيها من البرد”، فلما حضرته الوفاة أمر بردها، فعنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ انْظُرِي اللِّقْحَةَ الَّتِي كُنَّا نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا، وَالْجِفْنَةَ الَّتِي كُنَّا نَصْطَبِحُ فِيهَا، وَالْقَطِيفَةَ الَّتِي كُنَّا نَلْبَسُهَا، فَإِنَّا كُنَّا نَنْتَفِعُ بِذَلِكَ حِينَ كُنَّا فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا مِتُّ فَارْدُدِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ» أَرْسَلْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَضِيَ اللهُ عَنْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ” ( الطبراني؛ وقال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات ).
–ومن هذه الصور ما رواه عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر ، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنًا أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقينى نارًا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل: هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها.
فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر ، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، بل انظر كيف فرَّق- بحلاوة إيمانه ومذاقه- بين طعم الحلال وبين ما فيه شبهة.
– ومن هذه الصور: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مرض يومًا، فوصفوا له العسل كدواء، وكان بيت المال به عسلًا، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليَّ حرام. فبكى الناس إشفاقًا عليه، وأذنوا له جميعًا، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر، لقد أتعبت الخلفاء بعدك!!( الطبري في تاريخه؛ وابن عساكر في تاريخ دمشق).
ومن هذه الصور: قصة عاتكة زوجة عمر والمسك: فقد قدم على عمر مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك. قال: لا. قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحي به عنقك فأصيب فضلًا على المسلمين!!
فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر واحتياطه البالغ لأمر دينه، فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئًا من مال المسلمين !!!
ومن هذه الصور – أيضًا – أن عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة؛ وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين؛ وكان الوقت ليلًا، وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر: انتظر، فأطفأ الشمعة وقال له: الآن اسأل ما بدا لك، فتعجب الوالي وقال: يا أمير المؤمنين لم أطفأت الشمعة؟! فقال عمر: كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟!!
وجاءوا له – يومًا – بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته – ورعًا عن المال العام – فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته؟!
الله أكبر !! فأين هؤلاء؟ وأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة فأخذ ينهب منها بغير حساب؟!
انظر إلى ذلك وإلى حالنا كما وصفه صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ” (البخاري).
رابعاً : دعوة الإسلام إلى الحفاظ على المال العام
أيها الإخوةالمسلمون:
إن تشريع الإسلام لحماية الملكيتين الخاصة والعامة له علاقة وثيقة بأمن البلاد والعباد، فإذا آمن الفرد بأن ملكيته مصونة ومحترمة، وأن جميع طرق العدوان محرمة في الشريعة الإسلامية، فإن الفرد يأمن على ماله وعرضه، ويؤدي ذلك إلى علاقة ود ومحبة وتواد بين أفراد المجتمع وإلى استقرار وسلامة المجتمع من كل خوف أو رعب أو تهديد.
أما إذا ترك الحبل على الغارب وأصبحت الأموال الخاصة والعامة فريسةً للطامعين، ونهباً للمعتدين، فلا شك أن يصاب المجتمع بتفكك أوصاله، وهدم بنيانه، وزلزال كيانه، ويصبح الفرد في رعب دائم، وقلق مفزع، فلا هو تمتع بماله، ولا اطمأن في مقامه، كيف لا وهو يخشى الاعتداء على ماله كما تخشى الأسد من أن تلتهم فريستها؟!!
أيها الإخوة المؤمنون :
واجبنا عدم التعدي على المال العام بجميع صور التعدي، قولوا لكل من أخذ المال العام واستحله ؛ أنه يأتي به حامله على رقبته يوم القيامة ؛ يقول تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. (آل عمران: 161).
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ، فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ، فَأَما الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله فَالشِّرْكُ، قَالَ الله: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ العِباَدِ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ الله فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يُدَبِّرُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ”.(عبدالرزاق والبزار بسند حسن).
فعلينا بالتوبة فباب التوبة مفتوح لكل من أخذ مالًا من شخص او من مال الدولة، أن يرد ما أخذ قبل أن يفضح يوم القيامة .
نسأل الله العلي القدير أن يرزقنا الرزق الحلال وأن يبارك لنا فيه؛
اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عن ما سواك
No comment