موضوع خطبة الجمعة للدكتور عثمان الباز بعنوان الحَياءُ خيرٌ كلّه، الحمدُ لله رب العالمين،من عرفه استحيامنه حق الحياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مجيب الدعاء وقابل الرجاء، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنارت بقدومه السماء والذي انمحت بنور وجهه الظلماء، شهدت بنوره التوراة والإنجيل ، ومنهجه للجنة دليل وسبيل وكل قلب تاه عنه هو تائه وعليل نظمت هذه الكلمات في عقد من سوانح الخطرات إهداءً لجنابكم ياسيد السادات،،،،،
لتحميل موضوع خطبة الجمعة pdf اضغط هنا
شهدت له التوراةُ والإنجيلُ نورٌ بمائدةٍ أخبرَ التنزيلُ
فكلُّ قلبٍ نالَ خيرًا إنه لجمال نورِ المصطفى ليميلُ
فبه القلوبُ لربها قد اهتدت والكفرُ ولَّى وانتهى التضليلُ
ومن أراد ولوجَ عاليَ جنةٍ خطاه سرها إنها لدليلُ
عطرٌ تنسمَ كلُّ قلب عطرَه بدونه فالقلبُ تائهٌ وعليلُ
تمهيدإن الله تعالى اختار لعباده الإسلام دينا وشريعة لأنه عالي الذروة في الجمال والكمال ولأنه تميز بشمول وعموم وتمام الأخلاق العالية فهذا رسولُنا الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول ﴿إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ﴾ ومن أكرم مكارم الأخلاق وأعلاها خلق الحياء،وقال ابن حجرالحَياء خُلُقٌ يبعث صاحبُه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ. وقيل هو:تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومحلُّه الوجه.
سترالقلوب ومحو العيوب
الحياء هو اللباس الجابر للقلوب والساتر للعيوب هو زينة الرجال والنساء ما حل في شئ إلا زانه وأناره وما سُلب من شئ إلا شانه وقبحه ومن هنا علمنا رسولُنا الأعظم صلى الله عليه وسلم قيمة وجود الحياء في حياتنا فقال ﴿ماكان الفحش في شيء الا شانه، ولا كان الحياء في شيء إلا زانه﴾
ونجد القرآنَ الكريمَ يأتي بالحياء في آية بها واحدة من فرائد القرآن الكريم وذلك لأهميته فهو يشكل كيان وقيمة الإنسان فبالحياء يطاع الله تعالى وبه يمتنع العبدُ عن معصيته وبه تستقيم العبادات والمعاملات وتحل الطاعات وتزهق المعاصي والسيئات
قال تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ“[الأعراف : 26]
ومن جميل البيان في الآية
بدايتها ببراعة الإستهلال بالنداء الذي يدل على حرص المنادِي على المنادَى ثم جاء النداء ببني آدم تذكرا لنا بأبينا آدم وأنه كان لله طائعا قانتا تائبا راجعا أوابا أواها منيبا فليس من المعقول أن يكون هذا شأنه وهو أصلنا ومنبتنا ونبتعد نحن عن طاعة ربنا
وساقت الآية بعضا من نعم الله علينا وهو ستر العورة باللباس والأهم لباس التقوى ﴿وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ﴾اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: لباس التقوى هو الإيمان.وقال آخرون: هو الحياء. وقال آخرون: هو العمل الصالح.وقال آخرون: بل ذلك هو السمت الحسن..وقال آخرون: هو خشية الله. تفسير الطبري
والذي نستلهمه من الآية الكريمة أن الإنسان يسترعورته بلباس حسي من قماش وغيره ثم يزيد السترَ بلباس الزينة وهو ماعبر عنه القرآن بقوله﴿ وريشا﴾ فهذا حياء الأبدان والأهم منه حياء القلوب لذلك قال المفسرون أن لباس التقوى هو الحياء في القلب وحياء الجسد شئ غريزي وفطري أما حياء القلب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
الحياء صفة الرحمن وكمال الإيمان
الحياء من صفات الله عز وجل، تليق بجلاله وكماله سبحانه، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
فحياؤه لا تدركه الأفهام ولا العقول، فهو حياء كرم وبر وجود وجلال وكمال ومَنٍّ وعطاء
فهو سبحانه حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا، ويستحي أن يعذب ذا شيبة شاب في الإسلام، فسبحان من يذنب عبده، ويستحيي هو. ومن استحيا من الله استحى الله منه.
والحياء من الله تعظيم قدره، وتقديم محابه، واجتناب معاصيه. ويعلمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كيفية الحياء من الله تعالى فهو بمفهوم أوسع كمال وبقاء ونقاء الإيمان ففي درس عملي لأصحابه الكرام رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:﴿استحيوا من الله حق الحياء” قالوايا رسول الله: إنا لنستحيي ولله الحمد. قال: “ليس ذاك؛ ولكن الاستحياء من الله: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى. ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء﴾
سيد الأنبياء يعلمنا الحياء
لقد كان الحياء خلقا رئيسا في حياته صلى الله عليه وسلم فعن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، فَإذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُه عَرَفْنَاهُ في وَجْهِهِ” متفقٌ عليه.
بين لنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الحياء من الإيمان فقد روى الإمامان عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه عنهما: ﴿أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: دَعْهُ، فإِنَّ الحياءَ مِنَ الإِيمانِ﴾ متفقٌ عَلَيْهِ.
وعلمنا صلى الله عليه وسلم أن الإيمان هو جماع كل خير وتركه جماع كل شرفعن عِمْران بن حُصَيْن رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: الحياءُ لا يَأْتي إلَّا بِخَيْرٍ متفقٌ عَلَيْهِ
وقد وصف الصحابة ُ حياءه صلى الله عليه بأنه -كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذاكره شيئا عرفناه في وجهه”
وأما حياؤه صلى الله عليه وسلم من الناس، فالأمثلة عليه كثيرة ومتنوعة؛ فقد ورد أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية التطهر من الحيض، فأخبرها أن تأخذ قطعة من القماش، وتتبع بها أثر الدم، إلا أن تلك المرأة لم تفهم عن النبي قصده تمامًا، فأعادت عليه السؤال ثانية، فأجابها كما أجابها في المرة الأولى، غير أنها أيضًا لم تستوعب منه قوله، فسألته مرة ثالثة فاستحيا منها وأعرض عنها، وكانت عائشة رضي الله عنها حاضرة الموقف، فاقتربت من تلك المرأة وشرحت لها الأمر بلغة النساء
وكان من حيائه صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا بلغه عن الرجل أمر غير جيد، أو رأى منه سلوكًا غير قويم، لا يخاطب ذلك الشخص بعينه، ولا يوجه كلامه إليه مباشرة، حياءً منه، ولكي لا يجرح مشاعره أمام الآخرين، بل كان من خلقه وهديه في مثل هذا الموقف أن يوجه كلامه إلى عامة من حوله، من غير أن يقصد أحدًا بعينه، فكان يقول: ﴿ ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا ﴾ رواه أبو داود
دواعي الحياء ونيل الرجاء
إن مما يدعوا للحياء من الله تعالى أن نتذكر كل نعمة أنعمها الله علينا ونسأل أنفسنا أيتقرب الله إلينا بالنعم ونقابلها بالمعاصي وهو الذي يقول {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}النحل:53
فمن نظر إلى إحسان الله له، وفضله عليه ونعمه المترادفة والمتوالية يستحي من أن يقابل نزول النعم عليه بصعود المعاصي منه إلى ربه، فلا يقابل الإحسان بالإساءة إلا لئيم. {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}الرحمن:60
قال الجنيد: الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
وهو ما جاء في الحديث : ﴿… أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي﴾
ومن دواعي الحياء معرفة قدْرِ الله حق القدْر فما خسر الخاسرون وما خاب الخائبون إلا بعدم معرفتهم قدرَ ربهم قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾الزمر : 67-
“وما عظّم المشركون الله حق تعظيمه حين أشركوا به غيره من مخلوقاته الضعيفة العاجزة، وغفلوا عن قدرة الله التي من مظاهرها أن الأرض بما فيها من جبال وأشجار وأنهار وبحار يوم القيامة في قبضته، وأن السماوات السبع كلها مطويات بيمينه، تَنَزَّه وتقدس وتعالى عما يقوله ويعتقده المشركون.” المختصر في التفسير
فإذا نظر العبدُ إلى عظمة الله وكمال قدرته عليه وتمكنه منه، وسهولة العقوبة مع تمام القدرة وعدم المانع، ثم نظر في كثرة ما يعانيه من الزلل والعصيان، ومخالفة الرحمن، استعظم جنايته في حق مولاه، وتقصيره في حق سيده، فكان هذا باعثا على الحياء منه سبحانه.. وقد قيل قديما: “لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه
ومن دواعي الحياء أن يعلم العبدُ أن الله مطلع عليه يسمع ويرى فهو سبحانه العليم الخبير، والسميع والبصير، والرقيب الشهيد، والحفيظ والمحيط، والمحصي الحسيب.. {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}، و{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض}، {وهو معكم أينما كنتم}، القلوب إليه مفضية، والسر عنده علانية، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، لا فرق عنده بين السر والإعلان {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}، {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}.
قال ابن عمر: “لا يجد العبد صريحَ الإيمان حتى يعلم أن الله تعالى يراه؛ فلا يعمل سرا ما يفتضح به يوم القيامة”.
قيل للجنيد: بم استعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك للمنظور إليه.
رحيق الفضلاء من واحة الحياء
ضرب لنا القرآنُ الكريمُ مثالا رائعا من أمثلة الحياء وهو قصة بنت نبي الله شعيب مع سيدنا موسى عليه السلام لما دخل موسى قرية مدين ووجد الناس يسقون أنعامَهم ووجد ابنتي شعيب تتأخران لضعفهما فتقدم وسقى أغنامهما ولما حَكَتا الأمرَ لأبيهما بعث إحداهن لتأتي به إليه ليستأجره قال تعالى﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾
ومن جمال البلاغة والبيان في الآية التعبير بعلى التي تدل على الإستعلاء المجازي لتؤدي معنى التمكن الشديد من وصف الحياء وأن حياءَها فاق كل وصفٍ للحياء
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، ﴿قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ﴾ قال أبو حازم سلمة بن دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ، ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ، ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما ، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى وأكل تفسير البغوي
وقال عليه الصلاة والسلام مبينا مقام الحياء من الله: ﴿ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة﴾متفق عليه.
قال الحسن: “لو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي أن نبكي فنطيل البكاء“
لما مرضت فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- مرض الموت الذي توفيت فيه، دخلت عليها أسماء بنت عميس-رضي الله عنها- تعودها وتزورها فقالت فاطمة لأسماء: والله إني لأستحي أن أخرج غدا (أي إذا مت) على الرجال جسمي من خلال هذا النعش، وكانت النعوش آنذاك عبارة عن خشبة مصفحة يوضع عليها الميت ثم يطرح على الجثة ثوب ولكنه كان يصف حجم الجسم،
فقالت لها أسماء: أو لا نصنع لك شيئا رأيته في الحبشة، فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه بما يشبه الصندوق ودعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت على النعش ثوبا فضفاضا واسعا فكان لا يصف، فلما رأته فاطمة قالت: سترك الله كما سترتني.
ولما احتضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: وما لي لا أجزع؟ ومن أحق بذلك مني؟ والله لو أوتيت بالمغفرة من الله تعالى لأهمني الحياء منه مما صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه.
وفي الختام فإن الحياء خير ميزان يوزن به الإنسان وخير قياس ومعيار يعرف به الإيمان وعليه صلاحُ كل عطبٍ دبّ في جسد المجتمع فهو خير معبر عن شخص العبد وعبادته ومعاملاته مع ربه ومع الناس وقد أخطأ أقوامٌ فاستبدلوا الحياء بقبيح الأقوال والأفعال وأطلقوا عليها صراحة وما هي إلا قبحٌ ووقاحة ولا زال أعداؤنا يجروننا لترك الحياء حتى نترك بتركه الإيمانَ وحياةَ القلوب وهذا ما قرره لنا المُعَلّم الأكرم صلى الله عليه وسلم ﴿ماكان الفحشُ في شيء إلا شانه، ولا كان الحياءُ في شيء إلا زانه﴾
والحمد لله رب العالمين
خادم الدعوة،عثمان عبد الحميد الباز
No comment