لغة القرآن، والحفاظ على الهوية موضوع خطبة الجمعة القادمة للدكتور مسعد الشايب، الجمعة الموافقة 13من جمادى الأولى 1443هـ الموافقة 17/12/2021م
أولا: العناصر:
1. بدء اللغة، وكيف وضعت؟ (رأي الجمهور).
2. أهمية اللغة العربية، ووجوب تعلمها، وخصوصًا للعلماء والفقهاء.
3. الخطبة الثانية: (دور اللغة العربية الحضاري، ومحافظتها على الهوية).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والأخرين، وحبيب ربّ العالمين لا رسول بعده ولا نبي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، صلاة وسلامًا عليه دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه وأتباعه وأحبابه إلى يوم الدين، وبعد:
(1) ((بدء اللغة، وكيف وضعت؟ (رأي الجمهور))
أيها الأحبة الكرام: من لطف الله (عزّ وجلّ)، ومن رحمته بنا أن علمنا أو ألهمنا اللغة التي نتخاطب ونتفاهم بها، ونعبر بها عن أراءنا واحتياجاتنا، وننقل بها أفكارنا، ونعرف بها عن هويتنا وثقافتنا، عن طريق أبينا آدم (عليه السلام)، الذي علمها لأبنائه.
فالله (عزّ وجلّ) لما خلق الإنسان غيرَ مستقلٍ بمصالحِ معاشه (حياته)، ومعادِه (آخرته)، وكان هذا الإنسان يحتاج إلى إعانة غيره؛ وذلك لاحتياجه إلى الغذاء واللباس والمسكن وغير ذلك، ولما كانت هذه الإعانة لا تتيسر إلا إذا عرف المعين ما في نفس صاحبه من الحاجة والغرض بطريق ما، فاحتيج إلى وضع شيء يحصل به التعريف، كالإشارات كحركة اليد والرأس، أو عن طريق الأمثلة: وهي الأجرام (الأشكال) الموضوعة على شكل الشيء ليكون علامة عليه، أو عن طريق الألفاظ التي توضع بإزاء ما يريده ويحتاج العون فيه.
ولما كان في الأمثلة ( الأشكال) عسرٌ، في كثير من الأشياء مع عدم عمومه إذ ليس كل شيء يتأتى له مثال، وقد يبقى المثال أيضا بعد انقضاء الحاجة فيقف عليه من لا يريد وقوفه عليه.
ولما كانت الإشارة لا تفي بجميع الأشياء أيضا، وكيف، وهي لا تقع إلا في المحسوسات أو ما أجري مجراها (لا تقع في الغائب والمعقول والمعدوم)، والكتابة فيها من الحرج ما لا يخفى.
ولما كانت الألفاظ (الكلام) أفيد هذه الثلاثة; لأنها موجودة عند الحاجة وعند عدمها، ولما كانت الألفاظ أعم; لأنها صالحة للتعبير بها عن كلِّ مرادٍ حاضر أو غائب، معدوم أو موجود، معقول أو محسوس، قديم أو حادث.
ولما كانت الألفاظ أيسر؛ لموافقتها للأمر الطبيعي؛ لأن الألفاظ والحروف كيفيات تحدث من إخراج النفس الضروري الحصول للإنسان الممتد من الطبيعة (الخلقة) بلا مشقة ولا تكلف، مع كونها مقدرة بقدر الحاجة توجد مع وجودها وتنقضي مع انقضائها.
لما كان كل ذلك أنعم سبحانه وتعالى على عباده ولطف بهم بإحداث واختيار الألفاظ اللغوية ووضعها للمعاني وأوقفهم عليها; ليتوصلوا بها في مطالبهم إلى الاستعانة بالغير.
فاللغة التي يتكلم بها الناس: عبارة عن اللفظ الموضوع بإزاء المعنى ليعبر الناس به عن أغراضهم، وهي مِنْ لُطف الله (عزّ وجلّ) ورحمته بنا، أن علم إياها أبانا آدم (عليه السلام)، بالطريقة التي قدرها سبحانه وتعالى سواء أكانت وحيًا، أم إلهامًا، أم بصدور (خلق) أصواتٍ من الأجسام، بأن تدل مَنْ يسمعها مِنْ العباد عليها، أم بخلقه تعالى العلم الضروري في العباد بها، فوضع اللغة توقيفي من قبل الحق تبارك وتعالى، وكانت هي اللغة العربية، فعن مقاتل بن حيّان ت (150هـ) قال: (كَلَامُ أَهْلِ السَّمَاءِ الْعَرَبِيَّةُ، ثُمَّ قَرَأَ: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:2])(مصنف ابن أبي شيبة)، وقال الإمام الأشعري (رحمه الله): (علمها الله بالوحي، أو بخلق الأصوات، أو بعلم ضروري)(رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب).
الأدلة على هذا الرأي:
1ـ قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا}[البقرة:32،31]، فالحق (تبارك وتعالى) يخبر بأنه علم آدم (عليه السلام) الأسماء كلها، وأن آدم (عليه السلام) علم الملائكة تلك الأسماء، ومقتضى هذا أن كلا من آدم والملائكة لم يكن واضعًا لها، وإلا لما احتاج إلى أن يتعلمها من غيره، فدل ذلك على أن الواضع للغة هو الله (عزّ وجلّ).
2ـ قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}[النجم:23]، فالله (عزّ وجلّ) في هذه الآية ذمّ قومًا على تسميتهم بعض الأشياء من دون توقيف، فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صحّ هذا الذم.
3ـ قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ}[الروم:22]، فالله (عزّ وجلّ) يمتن علينا في هذه الآية أيضًا باختلاف الألسنة، ويجعله آية على عظمته وقدرته، والمراد بالألسنة اللغة مجازًا، كقوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4]، وبالاتفاق بين العلماء ليس المراد باللسان الجارحة المعروفة؛ لأن الاختلاف فيها قليل، وعلى هذا فلو لم تكن اللغة توقيفية لما امتن الله علينا بها.
4ـ لو كانت اللغات من وضع البشر لجاز اختلافها وتبديلها، ولجاز القول: إنها على غير ما كانت عليه؛ لأنها قد تبدّلت وتغيّرت وحينئذ لا يوثق بها، فتعين كونها توقيفية.
(2) ((أهمية اللغة العربية، ووجوب تعلمها، وخصوصًا للعلماء والفقهاء))
أيها الأحبة الكرام لقد حثنا سلفنا الصالح على تعلم اللغة العربية، وعدم الخطأ واللحن فيها؛ لما لذلك من أهمية كبرى، فعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) قال: (تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ)(مصنف ابن أبي شيبة)، ومرّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم، فقالوا: (إنا قوم متعلمين). فأعرض مغضبًا من لحنهم وخطئهم، وقال: (وَاللهِ لَذَنْبُكُمْ فِي لَحْنِكُمْ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ ذَنْبِكُمْ فِي رَمْيِكُمْ)(شعب الإيمان)، وكتب بعض الحكماء لبنيه: (يَا بَنِيَّ، أَصْلِحُوا أَلْسِنَتَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ تَنُوبُهُ النَّائِبَةُ، فَيَسْتَعِيرُ دَابَّةَ أَخِيهِ وَثَوْبَ أَخِيهِ، وَلا يَجِدُ أَحَدٌ يُعِيرُهُ لِسَانَهُ)(أخبار الشيوخ وأخلاقهم).
فاللغة العربية تساعد على فهم الشريعة الإسلامية فهمًا حقيقيًا على وجه العموم، فما ورد في الشريعة الإسلامية من نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة هو ما ورد من كلام العرب من نمط واحد وطريق واحد، سوى ما اختص به القرآن الكريم من المزايا والخصائص التي ترتفع بها درجة الكلام في الحسن والقبول، فالقرآن انفرد عن سائر كلام العرب بمزايا جعلته معجزًا للبشر عن الإتيان بسورة منه، والحديث امتاز بما جعله يفوق غيره من كلام العرب وإن لم يبلغ درجة الإعجاز.
فمعرفة كلام العرب يساعد على فهم الشريعة فهمًا حقيقيًا، قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2،1]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}[طه:113]، وقال تعالى: {حم*تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت:1ـ3].
وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ)(رواه أبو داود)، فما ينسحب وينصب على القرآن الكريم وينصب على السنة النبوية، وقد كتب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه)، فقال: (أَمَّا بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَتَمَعْدَدُوا فَإِنَّكُمْ مَعَدِّيُّونَ)(مصنف ابن أبي شيبة) وقال أبو عمر الجرمي ت (225هـ): (أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه) ، ولذا لما سألوه: ما تقول في رجل سها في الصلاة فسجد سجدتي السهو فسها؟. فقال: (لا شيء عليه). قالوا له: من أين قلت ذلك؟. قال: (أخذته من باب الترخيم، لأن المرخم لا يرخم)(مجالس العلماء للزجاجي).
فالمبتدئ في فهم اللغة العربية؛ مبتدئٌ في فهم الشريعة الإسلامية، والمتوسط في فهمها؛ متوسطٌ في فهم الشريعة، ومن انتهى إلى درجة الغاية في فهم اللغة العربية كان كذلك في فهم الشريعة الإسلامية، وكان فهمه فيها بحسب ما تفيده اللغة العربية حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة.
واللغة العربية هي أعظم خطوة، وأهم علمٍ من علوم وخطوات في معرفة تفسير كتاب الله (عزّ وجلّ)، فالقرآن الكريم كما تقدم نزل بلسان عربي مبين، وإذا أردنا فهمه، وتفسيره، وجب علينا العلم بلغته، فهذا نافع بن الأزرق ت (65هـ) أحد زعماء الخوارج يدخل المسجد الحرام ذات يومٍ، فإذا هو بابن عباس جالسًا على حوض من حياض السقاية، فيسأله نافع عن تفسير حوالي خمسين ومائتي (250) كلمة من القرآن الكريم، فيبين له معناها مستشهدًا على معنى كل كلمة ببيت من أشعار العرب. (مسائل نافع بن الأزرق)، وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ}[الأعراف:89]، حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنٍ الحميري تَقُولُ: تَعَالَى: (أُفَاتِحْكَ)، يعني أقاضيك. (مصنف ابن أبي شيبة)، وقال أيضا: (كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَوَاتِ حَتَّى أتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أي ابْتَدَأْتُهَا)(شعب الإيمان)، وعن مجاهد بن جبر المكي ت (104هـ) تلميذ ابن عباس (رضي الله عنهما): (لا يَحِلُّ لأحدٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ يتكلمَ في كتابِ اللهِ، إذا لم يكنْ عالماً بلغاتِ العربِ)(البرهان في علوم القرآن)، وقال الإمام مالك (رحمه الله) ت (179هـ): (لا أُوتَى بِرَجُلٍ يُفَسِّرُ كلامَ اللهِ، وهو لا يعرفُ لغةَ العربِ، إلاَّ جعلتُه نكالاً)(المصدر السابق).
هكذا قال سلفنا الصالح، وهكذا حذروا من الاجتراء على كتاب الله (عزّ وجلّ) مالم يكن المرء متمكنًا من اللغة العربية، أما اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله أصبح تفسير كتاب سابلةً (طريق) لكل من هبّ ودبّ، واختلط الحابل بالنابل، والعنب بزبل الغنم، حتى أن أهل الفسق والكبائر تكلموا في تفسير كتاب الله (عزّ وجلّ) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واللغة العربية هي مناط الإعجاز في كتاب الله (عزّ وجلّ)، المعروف بالإعجاز البياني، أو الإعجاز النظمي، فالنظم عند علماء التفسير وعلوم القرآن، هو طريقة الكلام وأسلوبه، أي: ارتباط آياته ببعضها البعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منسقة المباني، فإن السورة مهما تعددت قضاياها، فهي كلامٌ واحد، يتعلق آخره بأوله وأوله بآخره، ويهدف بجملته إلى غرض واحد، وكذلك ارتباط الجمل ببعضها البعض في القضية الواحدة، وكذلك ارتباط السور القرآنية ببعضها البعض.
فالنظم مقابلٌ للشعر، والسجع عند العرب، والقرآنُ معجزٌ بنظمه أي: بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم، فهو خارج عن عادتهم، ومعجزٌ بهذه الخصوصية التي ترجع إلى جملة القرآن وتحصل في جميعه، وهذا يتمثل في فصاحة القرآن وبلاغته وبيانه، وأسلوبه البديع، ونظمه الحكيم، وجزالة ألفاظه، وفصاحة مفرداته، وتصويرها للحدث وتعبيرها عنه بأدق الألفاظ….الخ.
انظروا على سبيل المثال: لقول الله (عزّ وجلّ) في سياق قصة نوح (عليه السلام) وإغراق قومه: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود:44]، فقد آثر التعبير القرآني لفظ (استوت) على غيره فلم يقل: (رست) أو (استقرت)؛ لأن الاستواء يدل على معنى لا يدل عليه واحدٌ من اللفظين الأخرين، فالاستواء يدل على الاستقرار و الرسو المطمئن مع اعتدال الوضع.
أما الرسو والاستقرار فقد يكونان على غير وضع الاعتدال والاطمئنان، كأن ترسو السفينة أو تستقر وهي منكسة مثلًا، أو مائلة، والاستقرار المعتدل الوضع الخالي من الأخطار هو المعنى المطلوب في جانب نجاة المؤمنين من الهلاك وسلامتهم من الطوفان، ونفي التنكس مطلوب في مكان عمّ الطوفان فيه وجه الأرض، وغمر الماء النازل من السماء كل سهل ووعر.
فاختار التعبير القرآني كلمة (استوت) بدلا من (رست) أو (استقرت) لئلا يقع في الظن أن تكون السفينة قد تعرضت لشيء من الأخطار، خاصة وأن الله تعالى قال: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود:42]. فهذا أنسب لمقتضى الحال حتى يعلم المخاطبون عناية الله بعباده المؤمنين.
وانظروا مرة ثانية: لقول الله تعالى على لسان إخوة يوسف (عليه السلام): {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[يوسف:17].
قد يقول قائل: لم عبر سبحانه وتعالى بالأكل على لسان إخوة يوسف (عليه السلام) فقال: (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) مع أن الأكل عام لا يختص به نوعٌ من الحيوان دون نوع، وكان من الأنسب أن يعبر بلفظ (الافتراس) وهو الأفصح المختار مع السباع.
والجواب: أن الافتراس هو القتل وحسب، مأخوذ من (الفرس) الذى هو دق العنق، وإخوة يوسف (عليه السلام) خوفًا من أن يطالبهم أبوهم يعقوب (عليه السلام) بأثر باق من يوسف (عليه السلام) يشهد بصحة دعواهم، ادعوا على الذئب أنه أكله أكلًا كاملًا، وأتى على جميع أعضائه وأجزائه فلم يترك فيه مفصلًا ولا عظما، فعبروا (بالأكل) ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة بأثر من جسد يوسف ولو عبروا عنه (بالافتراس) لما أدى هذا المعنى، على أن استعمال لفظ الأكل مع الذئب وغيره من السباع ذائع ومشهور.
وصدق الله إذ يقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء:82]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24].
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له
(الخطبة الثانية)
((دور اللغة العربية الحضاري، ومحافظتها على الهوية الإسلامية والحضارية))
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: بعد أن رأينا اللغة العربية لغة القرآن وعظيم دورها في ديننا من حيث الفهم الحق للشريعة، والمعرفة لتفسير كتاب الله، والفهم لإعجاز القرآن، لا ننسي دورها الحضاري، وفي المحافظة على الهوية:
فلولا اللغة العربية؛ ولكونها لغة القرآن الكريم لاندثرت حضارة العرب والمسلمين، وزالوا وزال لسانهم من الوجود، وذابت ثقافتهم وهويتهم في الأمم الباقية، فوجود الأمم مرتبطٌ بوجود لغتها، فالأمم التي انقرضت لغتها زالت من الوجود، وذابت ثقافاتها في ثقافات الأمم الأخرى، فأين الفراعنة اليوم والهيروغليفية التي كانوا يتحدثون بها، أين السومريون الذين سكنوا منطقة العراق قبل ميلاد السيد المسيح بـ (3500) سنة، ولغتهم السومرية، وأين اللغة الأكادية ذات الكتابة المسمارية التي حلت محلها، أين اللغة اللاتينية والسريانية اليوم، وأين اللغة الأترورية التي سبقت هذه اللغات الأوربية، وأين الإغريق والرومان والبطالمة؟ زالوا جميعًا وانقرضوا بانقراض لغاتهم.
لولا اللغة العربية وكونها لغة القرآن الكريم لقضى الاستعمار الذي ضرب العديد والعديد من البلاد العربية والإسلامية، على سكانها وحولهم إلى ثقافته ولغته، وأمامنا مصر وقد استعمرها الإنجليز (74) أربعة وسبعين عامًا، وها هي الجزائر وقد استعمرها الفرنسيون (132) اثنتين وثلاثون ومائتي سنة، فلولا اللغة العربية، لتحولت كل الشعوب العربية والإسلامية التي احتلت ـ إلى ثقافة ولغة محتليها.
لا ننسى أيضًا أن اللغة العربية هي الوعاء الفكري الجامع لتراث الأمة العربية والإسلامية، وهي الحافظ له، سواء أكان شعرًا أم نثرًا أم تاريخًا وأيامًا، وبنزول القرآن الكريم وكونه باللغة العربية زاد هذا الحفظ، وزاد هذا الجمع توثيقًا؛ لأن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم إلى يوم الدين، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9].
واللغة العربية أيضًا تذيب الفوارق والعصبيات، والقوميات، وتوحدهم جميعًا تحت راية واحدة، وحضارة واحدة، ألا وهي الحضارة العربية الإسلامية، والدليل على ذلك أن الشعوب التي ارتضت الإسلام دينًا لها قد ارتضت اللغة العربية لسانًا لها، وأن الشعوب التي حافظت على لغاتها كتبت تلك اللغات بحروف عربية، سواء في ذلك اللغات الإفريقية كالسواحلية واللغات الأسيوية كالفارسية والأوردية.
ولم يكن مصادفة أن يبرز من بين الشعوب غير العربية، من يثري هذه اللغة العربية شعرًا ونثرًا وتأليفًا في شتى المعارف والفنون. بل إننا ليأخذنا العجب حين نرى أن أعظم علماء العربية هو سيبويه الفارسي، وحين نرى أعظم شيوخ الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وكلهم من أصول غير عربية ومن بلاد شديدة البعد عن شبه الجزيرة العربية.
كذلك استطاعت اللغة العربية أن تسهم في إثراء التراث العربي والعالمي في مجالات الحياة المختلفة، في الطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والفلك…الخ، ففي عصورها الزاهرة استطاعت اللغة العربية أن تستوعب تراث الأمم القديمة من فرس وإغريق وسريان وغيرهم، وأن تقدمه للبشرية شرابًا سائغًا، فأثرت الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية في مجالات العلوم المختلفة البحتة والتطبيقية.
فقد أضحت اللغة العربية في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد لغة العلم والحضارة، وأصبح العلم يتكلم بالعربية لمدة تزيد على ثمانية قرون من عمر الزمان، كانت الأمة قوية فقويت معها لغتها. وأقبل علماء أوربا على تعلمها وترجمة تراثها العلمي إلى اللاتينية فيما يُعرف بعصر الاستعراب الأوروبي.
ومن المؤسف حقًا بعد هذا الدور العظيم للغة العربية محليًا وعالميًا، أن تظهر مجموعة المغتربين، وهي مجموعة متواجدة في أغلب المجتمعات الإسلام انبهرت بأضواء الحضارة الغربية، وانبهرت بتقدمها السياسي والاقتصادي والعسكري، فباتت داعية للتغريب، وصار أفرادها أبواقًا لها داعين للأخذ بها بكل ما فيها بدون تمييزٍ وإبعادٍ لما لا يصلح ويتفق مع هويتنا الإسلامية، بل الأدهى والأمرّ أن منهم من ينادي بتنحية الهوية الإسلامية جانبًا عن الحياة العامة، وسياسة الدول، ورأينا منهم: مَنْ يهاجم ثوابت الشريعة اليوم، كالهجوم على السنة عمومًا، أو الهجوم على بعض أحكام الأسرة…الخ.
جاء سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)(رواه أحمد) ومتهوكون: أي: متحيرون في قبول الشريعة الإسلامية، فهذا إرشاد من النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتمسك بالهوية الإسلامية، وترك ما عداها.
ومن المؤسف أيضًا: أن العامية أصبحت لغة الكتابة اليوم في العلوم والآداب والجرائد والمجلات والروايات، وباتت لغة المدارس والمعاهد والجامعات، ورسائل الماجستير والدكتوراه، وانتشرت في البرامج التليفزيونية والإذاعية، وانتشر التحدث بها بين الأفراد والمجتمعات، ورأينا المحلات والمؤسسات والمدارس والمعاهد بل والجامعات تتباهي في كتابة أسمائها باللغات الأجنبية ضاربة باللغة العربية عُرضَ الحائط، وأصبحت (العربلشية) أو (الفرانكو) أي: كتابة الأحرف العربية بحروف إنجليزية هي لغة التحدث (الدردشة) على وسائل التواصل الاجتماعي، والأدهى والأمرّ أن كثيرًا من أولياء الأمور أصبحوا يدفعون لأبنائهم آلاف الجنيهات حتى يتعلموا ويدرسوا باللغات الأجنبية، وأبناؤهم لا يعلمون عن لغتهم الأم اللغة العربية (لغة القرآن الكريم) شيئًا.
وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ يقول: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ)(متفق عليه)، هذا الحديث هو أحد معجزات النبي (صلى الله عليه وسلم) لإخباره عن التغريب قبل أن يقع بمئات السنين.
فاللهمّ إنّا نسألك رضاك والْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ سخطك ومن النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب
No comment