إن المتأمل في نصر السادس من أكتوبر ١٩٧٣م، لا يمكن أن يفصل بين البعد العسكري والبعد الروحي، فقد كان للنصر جناحان: الإيمان واليقين بالله من جانب، والإعداد المادي والعسكري من جانب آخر، وهنا يبرز دور الإمام الأكبر عبد الحليم محمود – شيخ الأزهر الشريف (١٩٧٣ – ١٩٧٨)م – الذي عاصر الحرب، وأضفى عليها هالةً من التوجيه الديني والروحاني، جعلت المقاتل المصري يشعر أن سلاحه ليس حديدًا فحسب، بل مسنودًا بعون الله ونصره.
تفاصيل المحتوى
- الإمام واليقين بالنصر
- صناعة الروح المعنوية للمقاتلين
- البعد الصوفي في رؤيته للنصر
- دوره بعد النصر
- الخلاصة
الإمام واليقين بالنصر
منذ أن تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر قبيل الحرب بقليل، كان له موقف واضح من قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي؛ إذ كان يرى أن المعركة ليست مجرد نزاع حدود أو سياسة، بل معركة عقيدة ووجود، وأنها صورة من صور الجهاد في سبيل الله، الذي أمر الله به لرد العدوان ونصرة المظلوم.
ولذلك، حين عرض الرئيس الراحل محمد أنور السادات قرار الحرب على الإمام، كان الشيخ عبد الحليم محمود من أوائل المؤيدين، بل قال كلمته المشهورة: “إذا أردتم الجهاد فأنا أول المجاهدين، وإذا أردتم الشهادة فسأكون في الصفوف الأولى”. لقد زرع في القلوب يقينًا أن النصر وعد إلهي إذا توفرت شروطه من إعداد وإخلاص.
صناعة الروح المعنوية للمقاتلين
الإمام لم يكتفِ بالخطاب الرسمي، بل انطلق بخطبه وكلماته يرفع من معنويات الجنود والقيادة، مبينًا أن حرب أكتوبر صورة حديثة من صور بدر واليرموك وحطين، وأن “المؤمن لا يُهزم ما دام متوكلاً على ربه”.
وكان يؤكد أن قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ} [الأنفال: ٦٠] يتجلى في إعداد الجيش بالسلاح، لكن قوله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ} [محمد: ٧]يتجلى في تزكية النفس والإخلاص لله.
البعد الصوفي في رؤيته للنصر
الإمام عبد الحليم محمود كان صاحبَ نزعة صوفية عميقة، يرى أن الصدق مع الله هو سر الفتح، وقد كان يربط دومًا بين (الجهاد الأكبر) وهو جهاد النفس، و(الجهاد الأصغر) وهو جهاد العدو، فيوضح للناس أن النصر العسكري لا يتحقق إلا إذا انتصر الإنسان على نفسه أولًا، وطهّر قلبه من الخوف والضعف والأنانية، وكان رضي الله عنه يردد: “إن النصر ليس بكثرة العتاد وحده، ولكنه سر من أسرار السماء، يُعطى للمخلصين الصادقين”.
دوره بعد النصر
بعد أن تحققت ملحمة العبور، وقف الإمام عبد الحليم محمود يفسر للناس معنى النصر، موضحًا أنه ليس نصر جيش فقط، بل نصر أمة كاملة استعادت كرامتها، وكان يحذر من الغرور، ويؤكد أن الشكر لله هو الضمان لاستمرار الفضل.
كما جعل من ذكرى أكتوبر موسمًا لإحياء معاني الجهاد والكرامة في خطب الجمعة ومحاضراته، ليبقى النصر حيًّا في الوعي الجمعي المصري.
الخلاصة
لقد مثّل الإمام عبد الحليم محمود البعد الروحي العميق لنصر أكتوبر، فكان صوتًا للأزهر يبارك الجهاد المشروع، ويملأ القلوب يقينًا بالنصر، وإذا كان العبور العسكري قد صنعته سواعد المقاتلين، فإن العبور النفسي والروحي صنعته كلمات هذا الإمام العارف بالله، الذي ربط الأرض بالسماء، وربط النصر بالصدق مع الله.


No comment